صورة الأم في الشعر المهجري

صورة الأم في الشعر المهجري ـ





محمود محمد أسد

إذا ذكر الأدب المهجري بصدق تجربته وحرارة المعاناة ورقة المشاعر فإن الأم تشغل مساحة واسعة منه إلى جانب الوطن . هذه الأم التي فارقت أولادها على مرأى من عينيها ،

تبصر فلذات أكبادها يركبْنَ المجهول وراء طموحات لم تكنْ تدركها . لقد بقيتْ صورتها معلَّقةً في أذهان الشعراء المغتربين . ولا يخلو ديوان شاعر من قصائد لها . إن لم يخصَّها بالقصيدة فإنك تراها في كلِّ موضوع من موضوعات القصيدة .‏

والحديث عن الأم ومكانتها ليس بحاجة لإثبات أو دليل . فالأقلام تعجز عن الوفاء لها وكذلك القلب واللسان يعجزان عن إعطائها حقَّها ولو قليلاً من فضلها . فلا غرابة أن يتعلَّق بها الإنسان وخاصة في الظروف القاسية والأيام العصيبة حيث يجد المرء نفسه بحاجة لمن يواسيه في شدته ويؤانسه في غربته . عندها تُسْتَحْضَرُ كلماتها ونصائحها وترتسم تلويحة يديها ومساكب دموعها . فالحنين إلى الأم و الوطن عامل مشترك بين أدباء المهجر على مختلف ميولهم وتجاربهم قدَّموه لنا عن قرب وعن معاناة . فالشاعر إلياس فرحات ينسج اليأس وهو يحادث أمَّه في قصيدته / يا أمي / :‏

قطع البريدُ عليَّ حلمَ لقاكِ ونفى السرورَ إليَّ حين نعاك‏

وارحمتا لبنيك حوَّلتِ النوى أهدابَ أعينهمْ إلى أشواك‏

إلى أن يقولَ لها متحسِّراً متألِّماً :‏

لـهفي عليه مضى بداءِ حنينه وبـقيتِ صـابرةً على بـلواك‏

إن كان أهلكه الفراقُ فإنَّـما أملُ اللقاءِ هو الـذي أبــقاكِ‏

أنفقتِ عمرَكِ ترقبين رجوعَنا وتــجوسُ كلَّ سـفينةٍ عـيناكِ‏

أماه ! ليس على الغريب ملامةٌ بعض الذي يدهى الغريب دهاكِ‏

في الأبيات لوعة ووفاء دفين وألم متأجِّجٌ ، وهذا أمرٌ طبيعي . فالقروي له قصيدة رائعة بعنوان " حضن الألم " وهي نجوى عميقة من شاعرٍ عُرِفَ بحنينه المتوقِّدِ للوطن ولم يستطع فراقه فقد عاد إليه ليموت وهو القائل :‏

بنتَ العروبةِ هيِّئي كفني أنا عائد لأموت في وطني‏

في قصيدةِ حضن الأم " يخاطب أمه بل وطنه :‏

أتـيتُكِ راجيَا نقلي لحضنِ أحبُّ إليَّ من نفسـي وأكرم‏

لـحضنٍ طالما قد نمتُ فيه قريرَ العين بين الضمِّ والشَّمِّ‏

أما ألقَيْتَ رأسَك فوق صدرٍ حـنونٍ خـافقٍ بمـحبَّةِ الأمِّ‏

فـدعني من نعيم الخلد أنِّي نعيمي بين ذاك الصدرِ والفمِ‏

في كلِّ نفخةٍ شعريةٍ معاناة ومكابدة ، وفي كلِّ قصيدة صورة مرَّةٌ مغموسة بالأسى والخيبة . ونبقى بصحبة القروي ملخصاً مرارة التجربة وحرقة اللوعة :‏

ولو عصفَتْ رياحُ الهمِّ عصفا ولو قصفَتْ رعودُ الموتِ قصفا‏

ففي أذنيَّ عند النزعِ صـوتٌ يحوِّلُ لي عزيف الجنِّ عزفا‏

فيطربني وذلك صوت أمي .‏

تكاد الموضوعات تكون واحدة . وهذا أمرٌ عاديٌّ لأن التجربة من مصدر واحد ومنهلٍ واحد . ولكن لكلِّ شاعر أسلوبه الخاص و فنِّيَّاته التي يستخدمها . ولكن المنهل الشعوريَّ واحد وهو الصدق . فرياض معلوف أحد ثلاثة أشقاء شعراء مغربين وكانوا سعداء الحال ولكن منغِّصَات الغربة تكوي فؤادهم :‏

قـدَّسْتُ اسمكِ ايهِ أمي يامَنْ حمَلْتِ العمرَ همِّي‏

كلَّ العواطفِ دون عط ـفكِ كلّها وهمُ بوهمِ‏

إلا عـواطفك النبيـ ـلةُ نزِّهتْ عن كلِّ ذمِّ‏

وإذا تـعلَّمْتُ الحقيقة بالـحقيقة منكِ عـلمي‏

إنه العرفان بالجميل والإقرار بالفضل لمن وفت وأعطت . إنها الموازنة التي تطفو فيها كفة الأم وترجح على كلِّ الموازين . وأذكر تلك القصيدة المؤثرة للشاعر " عقل الله الجر " في الأم . هذا الشاعر الذي استحضر لحظات الطفولة بدقة متناهية وبحساسية شفافة ، تلامِسُ شغاف قلوبنا بكلِّ تفصيلاتها :‏

ذكرْتُ ولكنْ كحلمِ الكرى أموراً تقضَّتْ زمان الصغرْ‏

غداةَ أدبُّ دبيبَ النمال وحولي تدبُّ ظروف القدر‏

أتعتِعُ لا مفصحاً كلمةً فتحسبُ أمِّي كلامي دُرَرْ‏

وأبكي فيضجر بي والدي وليس يلمُّ بأمِّي الضجرْ‏

فتُلْهِبُ خدِّي مِنْ لثمها وتمسَحُ من أدمعي ما انحدرْ‏

بهذه البساطة والعفوية يستحضر الشاعر ذكرياته ثمَّ يعرِّجُ بنا على الحاضر بعد أن كبر وازدادت همومه :‏

ودار الزمان بأحداثِهِ ومرَّ على عقدنا فانتثرْ‏

وجرَّدَ أميَ مني كما تجرِّد كفُّ الخريف الشجر‏

ومنهم من لاحق دموعها الحزينة يغسل بها ويعقِّمُ غربته القاسية .‏

تصوَّر دموعها عن بعد وهي تسهر الليالي ، تخاطب النجوم وترعاها .‏

كما يقول الشاعر الياس عبد الله طعمه :‏

وأقتل ما ألقى من البينِ أنَّ لي هنالك أمّا ضائعٌ ومعُها الغالي‏

أمام نجوم الليل تقرَعُ صدرها وللموج في الظلماءِ رنَّةُ إعوالِ‏

أتبكي لأجلي بنت أشرف قومها وتضحك مني في النوى زبَّالِ‏

كان طيف الأم يلاحقهم في كلِّ خطواتهم وكلِّ مجالسهم . وإنَّ حبَّهم الفطريَّ وحياتهم العفوية وطبيعتهم الشرقية جعلتهم يتصوَّرون أمهاتهم ساهرات راعيات للنجومِ ومراقبات للسفن لعلَّها تحمل شيئاً من رائحة الأولاد . فلا غرابَة من مناجاتهم القمر والنسيم فالشاعر أمين مشرق الذي تغرَّب في " الأكوادور " يلامِسُ مشاعرنا بهذه الأبيات الحالمة :‏

يانسمة الصبحِ لامسيها وبرِّدي قلبي الحزين‏

يانسمة الصبحِ قبِّليها في الخدِّ عني وفي الجبين‏

أمـاه بالله ما دهاك وما دهى إخوتي الصغار‏

هل أوقعتهم يدُ الهلاك ما بين نارٍ وبين عار‏

وكثيراً ما تمثَّل الشعراء لحظة الوداع والسفر بقسوتها ومرارتها ، وكثيراً ما خاطبوا المراكب التي نقلتهم عساها تردهم إلى أمهاتهم ؟ معلوف يقول :‏

شراعٌ مدَّ فوق الموج عنقا وراح يرود خلف الأفق أفقا‏

يقلُّ فتى تبدَّى الشطُّ جهماً له فأشـاحَ عنه الوجه طـلقا‏

وغادر عند صخر الشطِّ أمّاً كأنَّ لعينها في البحرِ عرقا‏

فما نضبتْ لمقلتها دموعٌ تذوبُ إليه تحنانا وشوقا‏

ترى هلْ آبَ من سفرٍ شراعٌ ولم تشبعه تقبيلاً ونشقا‏

لا يمكن أن يلامسَ هذه اللحظة إلاّ محترقٌ وشاعر معا . وربما هذا الاحتراق يخلق من صاحبه شاعراً . كما يبدو لنا في الأبيات السابقة . وفي البال تلك القصيدة التي رثى فيها الشاعر "عقل الجر " أخاه شكر الله وقد أخفى عن أمِّهِ نبأ وفاته وهي ترقب عودته :‏

ماذا أقولُ لقلب أمي الواله المتوجِّد‏

ما انفكَّ طيفكَ نصبَ عينها يروحُ ويغتدي‏

وتكاد تسمع وشوشاتك في الصدى المتردِّدِ‏

يا باذل الوعد السخيِّ لها بعودٍ أحمدِ‏

والموتُ يضحك من وعودك خلف بابٍ موصدِ‏

ما زلتُ أكذبها بأنَك في نعيم أرغدِ‏

أمَّا إلياس فرحات يعبِّرُ عن معاناة الأم التي تكابدُ الوحشة والانفراد :‏

أشقى النساء على الثرى أمٌّ قضتْ أيَّامَها في وحدة النسَّاك‏

أبـناؤها مـلؤوا الـبيوتَ وبيتها خالٍ من الحدَّاث والضحَّاكِ‏

حسبُ المهاجر لوعة أنَّ الأسى يقضي عليه ولا يرى مثواك .‏

محمود محمد أسد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء