عمر ابو ريشة من كتابي اعلام الشعر العربي في حلب عبد الحميد ديوان

 من كتابي أعلام الشعر العربي في حلب


عمر أبو ريشة

1908- 1990

كانت ولادة شاعرنا في منبج عام 1908م في المدينة التي أنجبت كبار الشعراء العرب فكانت موطن البحتري وأبي فراس وبين جدرانها تجول دوقلة المنبجي الشاعر المعروف . وانتقل صغيراً مع أبيه إلى حلب فدرس فيها الابتدائية ثم  انتقل إلى بيروت فدخل فيها الجامعة الأميركية سنة 1924 ليتم دراسته فيها. وفي هذه الفترة العصيبة من الزمن التي كانت تمر بها الأمة العربية كان الشعر العربي يغلي حماسة في صدور الشباب في الجامعات ، وكان الشباب يتأثرون بالأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة. فيرسلون شعرهم شواظ نار تحرق المستعمرين، ويقف عمر أبو ريشة خطيباً وشاعراً وهو الشاب الذي لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره ويرسل قصائده النارية دفاعاً عن بلده واقعة وألف بعد ذلك مسرحية شعرية سماها » ذي قار« استرداداً لكرامة العرب وقد قرأ الناقد (مارون عبود) هذه المسرحية فأشاد بها وأشاد بالشاعر الشاب الذي رأى في شاعريته عبقرية وتوثباً ينبآن بمستقبل عتيد لهذا الشاعر يقول مارون عبود ( ) » كان ذلك في حلب، ومنذ بضعة عشر عاماً ، يوم سمعت بشاعر اسمه عمر أبو ريشة دلني عليه تلميذي يومئذ وصديقي فيما بعد الأستاذ أورخان ميسر أثنى على صاحبه وسماه في ذلك الوقت شاعر الشباب ، وقدم لي تمثيلية نظمها الشاعر الشاب عنوانها »وقعة ذي قار« فاسبتشرت بما فيها من وثبات تدل على الشاعرية العتيدة، وصرت كلما وقعت على قصيدة له أقرؤها وأرجو .. «.

وكثرت الدراسات حول المسرحية التي اعتبرها بعض النقاد في تلك الفترة ( ) ديوان شعر بأكمله لما فيها من تنوع في موضوعات الشعر كالوصف والغزل والهجاء. يقول في إحدى هذه المختارات :

أجد السلامة في الخمائل

وحيال نهر جللت

وإزاء وادٍ زلزلت

وأمام قفر عصبت

وبقرب نبع مهمَل

وبمنـزلٍ ناءٍ وحِيـ

هذي مواطن للسلا

أما إذا ما متَّ يا 

 تحت أنّات الغصون

مجراه أسجاف السكون

أركانه كفُّ القرون

فكيه أطمار المنون

قد فُجِّرت منه العيون

دٍ ضلَّ عنه القاصدون

مة من حسود أو خئون

قلبي فأسلم ما يكون


وهكذا نجد الرومانسية تقطر من أبيات شاعرنا فهو يحب السلامة كغيره من شعراء الرومانسية الغربيين والمهجريين بل إنه يتمنى الموت لأنه أسلم ما يكون فما سرُّ هذا التشاؤم يا ترى. ونجد الجواب في طبيعة شعر الرومانسية وشعرائها لأن الحزن يغلف نسيج شعرهم وهم بفتوتهم وطموحهم وأحلامهم إذا ما اصطدموا بعقبات سرعان ما تنهار آمالهم وأحلامهم فيدخلون سراديب اليأس التي تسلمهم إلى أمنيات الزوال والموت.

ولكن الشاعر يتجاوز هذه المرحلة بسرعة وينتقل إلى إنكلترا لاستكمال دراسته الجامعية . إلا أنه لم ينقطع عن عالمه الذي وجد به ( الشعر ) فكان يرسل قصائد بين الفينة والفينة إلى حلب لتنشرها لـه مجلة (الجهاد) ويبدو أنه مال إلى التدين في إنكلترا بعد صدمة عاطفية أصيب بها فكتب مقالاً عنوانه » التبشير الإسلامي وأثره في بلاد الغرب « ذكر فيه تعلقه بالتصوف والحكمة وقضاء الله وقدره ، وتأثر بموت الشخصيات الإسلامية فكتب يرثي أحد علماء بيروت :

كرام العرب صبراً كل حي

وكل مصيبة مهما ادلهمت 

تناسوا إمرة الديّان فإنا

 سيثوي فوق ترب الهامدينا

على غير التصبر لن تهونا

إلى الديان يوماً راجعونا


ثم ينتقل إلى باريس فينقلب مزاجه وينطلق بفكر جديد وشعرٍ جديد هو شعر المرح والحب واللهو والعبث فكأنه شخص جديد ولد في باريس وراح يتغنى بالحسان الغيـد :

أفدي الحسان وأي صـ

اللينات قدودهنَّ

النافرات الواثبات

المسبلات شعورهن

الساحرات بطرفهن

اللابسات من الحياء

ما سرن إلا والفؤاد

 ـبٍّ لا يكون فداء هنّه

المضرمات خدود هنّه

الناهدات نهود هنّه

السود فوق نحور هنّه

وذاك أضعف مابهنّه

وروعه جلبابهنّه

سرى وصفق أثرهنّه


وكأننا نجد في نفسه الشعري الجديد أصداء شعر عمر بن أبي ربيعة في قصيدة الجمال وكأنه موكَّل به .

وعاد عمر إلى حلب عام 1932 وانخرط في الكفاح الوطني يناضل بشعره ضد المحتل حتى خرج المحتل من أرضه فاحتفل بخروجه من بلاده برائعة شعرية سجل فيها مجداً شعرياً جديداً وسطر سفراً من تاريخ نضال أبناء سورية في العصر الحديث. يقول عمر :

يا عروس المجد تيهي واسحبي

لن تري حبة رملٍ لم تعطر

درج البغي عليها حقبة

وارتمى كبر الليالي دونها

لا يموت الحق مهما لطمت

كم لنا من ميسلون نفضت

كم نبت أسيافنا في ملعب

من نضال عاثر مصطخب

شرف الوثبة أن ترضي العلا

هذه تربتنا لن تزدهي

 في مغانينا ذيول الشهب

بدما حُرٍّ أبي

وهوى دون بلوغ الأرب

لين الناب كليل المخلب

عارضيه قبضة المغتصب

عن جناحيها غبار التعب

وكبت أجيادنا في ملعب

لنضالٍ عاثر مصطخب

غُلِب الواثبَ أم لم يغلب

بسوانا من حماة ندب


ولم يسلم حكام بلده بعد الجلاء من لسان نقده لأنه كان يرى في تخاذلهم عن القضايا القومية هدم لمجد الأمة العربية التي دأب كل حياته يناضل من أجل إعادة بناء مجدها.

تولى إدارة (دار الكتب الوطنية بحلب) مدة ثم عين سفيراً لسورية في البرازيل والأرجنتين وشيلي، ثم سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في الهند والنمسا وبقي يتنقل في سفارات بلاده إلى أن اعتزل العمل الدبلوماسي واستقر في المملكة العربية السعودية حتى وفاته عام /1990/م.

شاعريته : أخضع عمر أبو ريشة الشعر لجبروته الفني وتابع طريق أستاذه وصديقه (الأخطل الصغير). فكان شعره يحوي كل ما اختزنه عقله من ثقافة حواها ذلك العقل الجبار. وفي سني فتوته وتفتحه الشعري يؤمن بالعروبة إيماناً مثالياً ولكنه ما لبث أن تحطم على صخرة اليأس من هذه الأمة التي مزقتها المصالح الشخصية الفردية ففجر ذلك الألم في نفسه وثار على واقعه وغادره إلى الطبيعة هرباً من هذا الواقع .

كان عمر أبو ريشة أكثر شعراء جيله إيغالاً في التجديد . ولندع شاعرنا نفسه يحكي لنا طريقته في التعبير الشعري. يقول عمر » هنالك أدوار متباينة النـزعات مَرَّت عليّ وتركت في حياتي الأدبية أثرها العميق. أحببت في أول نشأتي شعر البحتري وأبي تمام وشوقي وأضرابهم ، لأن أساتذتي- سامحهم الله- كانوا يفرقون في امتداحهم ، ولا يشحذون لساني إلا بشعرهم، فكم رقصت طرباً عند سماعي: 

ريم على القاع بين البان والعلم

 أحل سفك دمي في الأشهر الحرم


وكم أخذ المعلم يشرح ما بهذه القصيدة وبأمثالها جناس وطباق واستعارة إلى آخر ما هنالك من (ألاعيب) بيانية، حتى خُيِّل إليَّ أن القصيدة التي لا تضم شيئاً من هذه الألاعيب ليس لها قيمة ، وتحت تأثير هذا الرأي أخذت أنظم وأذكر مطلع قصيدة قلتها في هذا النحو :

سـلاها ما الذي عنّى ثنـاها

 وقلبي في التنائي ما سلاها

ج

ولم أكتفِ بهذا بل تعديته وأخذت أعارض بائية أبي تمام وسينية البحتري تلك التي عارضها ونشرها في مجلته في الأسبوع المنصرم شاعر لبناني يدعو الناس إلى التجديد : .. وإني إن استفدت شيئاً من هؤلاء فإنما استفدت اللغة والتراكيب ، أما الفكرة الشعرية فقد خبا دونها خيالهم الكسيح ، وسيعطيهم هذا الجيل الناهض ما يستحقون !.

سئمت هذا الشعر وهذه الزمرة من الشعراء ، فعدت أبحث في كتب الأدب عليّ أجد ما أروي به ظمئي فعثرت على شعر جيد مبعثر هنا وهناك كأبيات لأبي صخر الهذلي القائل :

وما هي إلا أن أراك فجاءة

 فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر


وأبيات لعبدة بن الطبيب ، وابن زريق البغدادي ، والوليد الأموي ، والأسدي وهذا الأخير هو صاحب القصيدة الرائعة :

نأت دارُ ليلى وشطّ المزار

 فعيناك ما تطعمان الكرى


ثم ساعدني الحظ فسافرت إلى إنكلترا لإتمام دراستي فشغفت بشعراء كثر كشكسبير ، شيلي، كيتس، بودلير، بو، موريس، هود، ملتن، تنسون، وبراونيننغ ، وقيمتهم عندي تتراوح حسب الحالة النفسية التي أكون فيها.

ففي حزني لا أردد إلا مرثية » غراي « وفالتشر ، وفي مرضي لا أردد إلا أبيات (ت.تنسون) المعروفة ، وفي الليالي الحمر لا يمر على بالي غير أوسكار وايلد وفي ذكرى حبي البكر لا تمر أمام عيني غير تلك الصور التي صاغها شكسبير في قصيدته (فينوس- أدونيس) ، التي أراها أروع ما أنتجه الفكر البشري في هذا الموضوع .. وهكذا ، فإن لكل شاعر أثراً لا يزول من نفسي ، ولكنه أثر يزيد أو ينقص .. وهنالك شعراء لهم شهرتهم الواسعة أمثال هوغو، كبلنغ، ميسفيلد، لامرتين، ولكنني لا أحبهم ولا أميل إليهم.

غير أنّ أحب الشعراء إليّ اثنان هما بو، وبودلير، اللذان صرفت الساعات الطوال في مطالعة آثارهما، فهما أشبه بلولب صور في حانوت رسام، كيفما حركته وجدت صوراً جديدة تختلف كل صورة عن أختها كل اختلاف، وفي كلٍّ منها رمز ينقلك من أفق إلى أفق، فلا تشعر بملل ولا تحس بتعب. وأما من ذكرت من الشعراء فإن كلاً منهم أشبه بلوح متقن الوضع فاتن الرمز، تكاد تنطق ألوانه وتشفُّ الحياة من خلالها ، فلا يقف المرء أمام هذا اللوح معجباً به كل الإعجاب ثم لا يلبث أن يفتش عن لوح آخر. هذا ما أنتحله من العذر في حبي الشديد لبودلير وبو، في هذه الأيام ، ولكن ألم أنتحل عذراً أوسع حجة عندما كان (براوننغ وتنسون) كل شيء في نظري في العام الماضي ؟ إنني أخاف أن يأتي ذلك اليوم الذي لم تعد تحب فيه نفسي غير شعر الحياة الصامت « . ( )

لقد كشف لنا عمر بلسانه عن تجربته الشعرية التي تنقل فيها من عشق لشعر القدماء أول أمره وكان نتيجة ذلك أن اكتسب مفردات اللغة وتراكيبها وتمكن من ناصيتها تمكناً جعله يدقق فيها فيترك ما رآه غير صالح لشعره وتمسك بما يخدمه في توجهه الشعري الجديد. ولقد وعى عمر جيداً أن الشعر العربي المعاصر يجب أن لا يكون عالة على شعر القدماء أو تبعاً لهم بل ينبغي أن ينطلق من إسار التقليد إلى عالم الإبداع الرحب فيكون بذلك قريناً لشعر الغرب الذي سبقه في هذا المجال. ووجدنا في حديث عمر الذي أوردناه أنه لم يقف عند شاعر معين بل راح يقبس من كل شاعر ما يؤدي هوى في نفسه وفي رؤيته للشعر فأسس لنفسه عالماً شعرياً خاصاً ولم يكن عمر شاعراً يتأرجح بين الأمل واليأس أو الحزن والفرح بل هو أبعد من ذلك وأعمق إنه الشاعر بكل عالمه الواسع وانفعالاته الحساسة التي تفجرها المؤثرات الطارئة التي تحيط به. إنه يستلهم من أصغر الأشياء وأحقرها كما يستوحي من أخطرها وأعظمها مادة يصوغ منها خياله ألواحاً وصوراً مبكرة، ومهما تكن الصورة الشعرية التي يتناولها شاعرنا مطروقة فإنه بخيالاته والألوان والظلال التي يحيط بها صورته يحلق بها في عالم جديد لم يعرفه أحد قبله .

فشعر عمر أبي ريشة لقطات تصويرية إبداعية نسجها خيال شاعري قوي واكبته العاطفة. ولعل هذا سر أساسي من أسرار العناصر الجمالية التي يتمتع بها شعره ، ففي كل قصيدة مشاهد خيالية متلاحقة ، وحين تكتمل تبرز مثيلاتها ، أما نفثاته في » عيد الجلاء « فتصور عبق الهدى ، وتهادي مواكبه ، وتهادي البغي، وارتماء غطرسة الاستعمار وكبريائه المزيف ، وتغني الدنيا بالمروءات العربية يقول في » عروس المجد « :

يا عروس المجد تيهي واسحبي

لن تري حفنة رمل فوقها

درج البغي عليها حقبة

وارتمى كبر الليالي دونها

 في مغانينا ذيول الشهب

لم تعطر بدما حرٍ أبي

وهوى دون بلوغ الأرب

لين الناب كليل المخلب


ثم يتغنى ببطولات الرسول الكريم الذي ملأ الكون عدلاً وسماحة ونبلاً: 

من هنا شقّ الهدى أكمامه

وأتى الدنيا فرقَّت طرباً

وتغنت بالمروءات التي 

 وتهادى موكباً في موكب 

وانتشت من عبقة المنسَكب

عرفتها في فتاها العربي


لقد ترددت أصداء هذه الرائعة  الشعرية في بلاد الشام ، وتغنى بسحرها المنشدون في المحافل الحماسية والمناسبات القومية لما فيها تصوير ممتزج مع العاطفة .

ولقد أحس الدكتور شوقي ضيف بقوة المادة التصويرية عن عمر أبي ريشة فوقف عندها ورأى أنه في هذه الصور يذكرنا بشعراء بارزين في الشعر العربي كان لهم هذا السبق وبخاصة في العصر العباسي أمثال أبي تمام وابن الرومي. اللذين خرجا على تقاليد الشعر الموروثة فسبحت الأشباح والظلال والألوان في شعرهم .

يقول د.شوقي ضيف في كتابه (دراسات في الشعر العربي المعاصر).

» وما أرتاب في أن أبا ريشة أحد شعرائنا المعاصرين الذين استطاعوا أن يديروا هذه الآلة إدارة حسنة ، فإذا شعره مجاميع من أطياف وأشباح ، وكأنما لـه من اسمه حظ ، فهو يرسم بريشته لوحات كبيرة ، تلمع فيها خطوط الاستعارات وألوانها وظلالها ، وكأن روح أبي تمام القديمة بعثت ثانية فيه ، وهي لم تبعث وحدها ، بل بعثت أيضاً روح ابن الرومي ، وأضاءت على الروحين أقباسـاً غربية ، ومن شعر المهاجر الأمريكي. 

٨ولعل ذلك ما يجعل ديوانه متعة حقيقية ، بما يصوغ فيه من مشاعر وتأملات، فالشعر عنده ليس صوراً فارغة ، وإنما هو صور مليئة بالأفراح والأحزان ، مع الإحساس الدافق بالعروبة والإسلام «.

ويرى الدكتور شوقي ضيف أن عمر أبا ريشة ليس من الشعراء الذين ينطوون على أنفسهم مبتعدين بأحلامهم عن شعوبهم وتاريخ أمتهم وطموحها وآلامها بل يراه » ممن يندمجون في محيط أمتهم، يحملون تاريخها وآمالها وكل ما تسعى إليه من خير ومجد في صدورهم ولا يلبثون أن يذيعوه في شكل تعاويذ يريدون أن يرقوا بها أمتهم، ويبعثوا فيها روحاً من عند الله وحياة شامخة كالأجداد «.

وصور أبي ريشة ليست صوراً ضعيفة واهمة ولا هي صور كسيحة لا تجري في فضاء الخيال بل هي صور حية معبرة لها دلالات ومعاني عميقة يقول عمر :

أنا من أمة أفاقت على العزِّ

عرشها الرثّ من جراد المغيرين

 وأغفت مغموسة في الهوان

وأعلامها من الأكفان


ففي هذين البيتين يعبر عمر عن بؤس بلاده في ظل الاحتلال الفرنسي ، هذا البؤس الذي يستفز النفوس لتندفع ثائرة ضد هذا المحتل الغاشم من نير الاحتلال البغيض.

وليست اللغة التصويرية هي كل ما نلمحه في شعر عمر أبي ريشة بل نلاحظ كذلك أنه يحيل الحقائق التاريخية إلى صور مثيرة تؤثر في عواطف القارئ والسامع لأنه يعرف كيف يستثمر حقائق التاريخ كما يعرف كيف يستثمر حقائق عصره. 

فهذه القدس تناجيه كي يستحث خطا الأمة لتقف وقفة الأسود في وجه الاستعمار وأطماع الصهيونية. وتستيقظ العاطفة في صور عمر وتظهر المعاناة صادقة في شعره وينطلق صوته الشجي مستنهضاً همم الرجال لاستعادة الضلوع الغضة في القدس والتي تغصها عقارب الفساد . وفي مثل هذه المواقف تشتد مواجد الشاعر فيتحدث إلى الأمة العربية عن المآسي الجماعية في فلسطين ، وجلود الثعالب التي لبسها المحتلون :

ما بلغنا بعد من أحلامنا

أين في ا لقدس ضلوعٌ غضَّـةٌ

وقف التاريخ في محرابها

الأبناء السبايا ركبوا

ومَنْ الطاغي الذي مَدَّلهم

أو ما كنا لـه في خطبةٍ 

يا لذل العهد أن أغضي أسى

 ذلك الحلمَ الكريم الذهبي

لم تلامسها ذُنابى عقرب

وقفةَ المرتجفِ المضطرب

للأماني البيض أشهى مركب

من سراب الحق أوهى سبب

معقل الأمن وجسر الهرب

فوق صدر الشرف المنتحب


إنها المأساة التي حاقت بفلسطين صورها الشاعر أروع تصوير وزاد من سحر تصويره ذلك التعبير الرومانسي عن الأحزان التي يحس بها العرب وتشاركهم الطبيعة هذا الإحساس بمحنتهم وآلامهم . وكذلك كان استخدامه للتعابير الجديدة في لغة الشعر والتي لم نجد لها مثيل عند أساطين الشعر القديم أضفى عليها مسحة من الجمال الحزين المؤثر وبخاصة عندما تنبعث من القصيدة أصوات الحزانى وأنات الثكالى ودموع اليتامى وموات النخوة وسيطرة الأصنام وعباد الدرهم ( ) على كل شيء في البلاد.

اسمعي نواح الحزانى واطربي

ودعي القادة في أهوائها

رُب (وامعتصماه) انطلقت

لامست أسماعهم لكنها

أمتي كم صنمٍ مجدتِه

فاحبسي الشكوى فلولاك لما

 وانظري دمع اليتامى وابسمي

تتفانى في خسيس المغنم

ملءَ أفواه البنات اليتمِّ

لم تلامس نخوة المعتصم

لم يكن يحمل طهرَ الصنم

كان في الحكم عبيدُ الدرهم


وتزاد عواطفه اشتعالاً حين يرى أحد جنود الأمة يُحكم بالإعدام ويُعدم أمام ناظريه فيبارك هذا الجرم ويرى في هذا الجندي كبش فداء لأمته وشعاع الأمل الذي سيبتسم للأمة كلها بعد أن يزول الاحتلال :

أيها الجندي يا كبش الفدا

ما عرفت البخل بالروح إذا

بورك الجرح الذي تحمله

 يا شعاع الأمل المبتسم

طلبتها غصص المجد الظمي

شرفاً تحت ظلال العلم


وإذا تساءلنا عن دور المرأة في حياة وشعر عمر وجدنا أن المرأة عاشت في حياة عمر بكل عطرها وشذاها وطيبها فخاض معها معارك وهمية في خياله وفي حياته أيضاً فكان له معها انتصارات تركت على هيكله الشعري قصائد مثيرة كانت كالأساطير في ملاحم الحب والهوى وخلفت في قلبه وجسده جراحات عميقة رسمها شاعرنا بريشته البارعة .

ففي ديوانه الأول أدخلنا حانة تحت الأرض فيها السكارى والعشاق من خلال مسرحية له اسمها (الطوفان) وراح يحدثنا على لسان العاشق بأن الحياة جميلة فراح يشرب ويطرب ويغني للحسن فيقول :

كم مرتعٍ بتنا به

ولكم أذعتُ إليه وجدي

وكم اتكا فوق الزهو

حتى إذا طوقته

 والليل حاك عليه برده

في الهوى وأذاع وجده

ر ومدَّ لي باللطف زنده

أدميتُ بالقبلات خدّه


ونراه في أبياته هذه مادي حسي ولكنه ينتقل بعد ذلك إلى رسم لوحة بارعة في الغزل يقول فيها:

عصرت المنى على شفتي

عرفت بك الله بعد الضلال

فأصبحت نجوى الهنا في فمي

أغنيِّك حبي وهذا الوجو

 فسالت نعيماً على أضلعي

فدل البديع على المبدع

وسرَّ السعادة في أدمعي

دُ ضحوك الثنايا يغني معي


وهكذا فإن عمر عندما يتغزل بالمرأة يتركها دائماً مجللة ببرقع الحياء، ولو أنه يخرج في بعض الأحيان عن هذا الطريق الذي رسمه لنفسه ففي إحدى قصائده في الجزء الثاني من ديوانه وهي بعنوان » عُرْيُها « يتغزل بفتاته ويتمنى أن تتعرى لأن عريها أجمل : 

أنا في خدر من أهوى

غطاء سريرها ملقى

ومئزرها على الكرسي

وأنملها يلملم في ضفائر

ولما ازَّيَّنَتْ خلعت

وماست وهو مزهو

وقالت : كيف تلقاني

فقلت: وطرفي المشدوه

جميلٌ لبسُ من أهوى

 أراقب كل ما تفعل

وراء حذائها مهمل

لا يطوى ولا ينقل

شعرها المرسل

عليها بردها الأفضل

يحيط بقدها الأمثل

به يا شاعري الأول

من آلائها ينهل

ولكن عريها أجمل


وهو في حبه للمرأة يتدله فتارةً هو المعشوق وتارةً هو العاشق يشد على قلبه ويأبى أن يقوده يقول في قصيدة » حبي « ..

لك ما أردت فلن أسائل

حسبي مررت بخاطر النعمى

كم قلتها : لك ما حييتُ

أنا ما حقدت على الشفاه

لك ما أردت فلن أغيّر

إني رميت بمنجلي 

 كيف انتهت أعراس بابل

هنيهات قلائل

وكم ختمت بها الرسائل

ولا عتبت على الأنامل

ما أردت ولن أحاول

وتركت للطير السنابل


وتتنازع الشاعر مشاعر متناقضة حول المرأة بعد تجربته معها فهي ليست الملاك الذي كان يتصوره بل هي أنوثة وجسـد لـه نوازعه ورغباته وهذا ما يجعله يصاب بالخيبة فنراه أحياناً يقدسها وأحياناً أخرى يصفها شهوانية تقودها الرغبة.

ونخلص في حديثنا عن عمر أبي ريشة إلى أنه كان شاعراً متميزاً بنكهة أصيلة تجعله يتميز عن غيره من الشعراء أمثال المتنبي وشوقي والأخطل الصغير وغيرهم.

وأهم ميزة يتميز بها كما رأينا هي مقدرته الفائقة على التصوير. ذلك ما نجده في جانب من جوانب شعره ولذلك نستطيع أن نقول إن التصوير أساس فنه ، لأنه يرسم صوره بريشة يدٍ صناع ماهرة تعرف كيف تضمن الخطوط والألوان والأضواء والظلال بعضها إلى بعض.

وبعد فهذا هو عمر أبو ريشة الشاعر الذي تغنى بأمجاد أمته فغضب وثار عندما أذلها الاستعمار واشتد به الغضب والحنق بعدما أصيبت أمته بهزائم ونكبات على يد إسرائيل وراح يستنهض همم الشعب العربي ليدافع عن كرامته لقد جاهد عمر بشعره أحسن الجهاد وصور فأبدع وفتح أفقاً جديداً للشعر العربي أصبح بعد ذلك مذهباً سار في طريقه كثير من الشعراء.


د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء