كنت خائر القوى / نجدت اسكندراني

 كنتُ خائر القوى وأنا أسير هائماً على وجهي، في موكب الجنازة التي عبرت باب المسجد الصغير عند مدخل المقبرة، إلى طريق ترابي متعرّج تملؤه أوراق أشجار فارقت أغصانها، واخترق الموكب المقبرة إلى وسطها وحُطَّت الرِحال عند حفرة بين مقابر تزاحمت حتى لامسَ بعضها أطراف بعض...

كان صمت رهيب _أو هكذا خُيَّل إليَّ_ قد أطبق على السماء الممتلئة بالغيوم الدامعة التي واكبت حزن المشيّعين بوقار، وكانت أغصان الأشجار ساكنةً متدليةً نديةً والحشائش الخضراء رؤوسُها محنيّة مبللة كأنها تحاكي ما جاشت به ضمائر الناس المحتشدين حول القبر، فقد ازدحمتْ الدموع في مآقيهم واشتد الأسى في قلوبهم...

    وكان يقطع هذا الصمت المهيب همسات الأفواه الصائمة طالبةً للفقيدة الرحمة، وأخرى يواسي بعضها بعضاً بأن المرحومة استراحت من دار الشقاء واجتازت امتحان الدنيا بالصبر والرضا.. .

وعندما هممتُ بالنزول إلى القبر كي أكون آخر من يودّعها، حاول خالي أن يمنعني خوفاً أن يصيبني مكروهٌ من رهبة الموقف، ولكني لم آبهْ لصوته البعيد ودلفت إلى بطن القبر، فوجدت نفسي محاصراً بين جدرانه الأربعة المظلمة...

    غاب عني ضوء النهار، واشتد عليّ ظلام القبر، فشعرت بالخوف والرهبة وأُصبت بهلعٍ شديد، فتجمدت الدماء في شراييني وتعطل عقلي، ودخلتُ في دوامة من اللا وعي وأنا أجثو على ركبتي، فلم أعد أدري ما يدور من حولي.. وفي لحظة وامضةٍ شعرت أني في محنةٍ شديدة وأني هالك لا محالة...

ومن لـُجّة الظلام..كأني سمعت صوتاًّ يناديني : يا عبد الله..قد أفِلت الشمس التي كانت تنير حياتك.. ولا منجى لك إلا برحمة من ربك.

    ارتعش قلبي وزاد خفقانه، وشعرت بالشلل يجتاح جسدي، وتعلقت عيناي بفتحة القبر طالباً العون ممّن حولها من الناس، لكنها بدت بعيدة المنال.. ولاحت لي من هناك أيادي أشباح تتحرك ووجوهٌ حائرة ضاعت معالمها عني وأفواهٌ تُفتح وتُغلق.. 

    وخُيّل إليّ سماع أصواتٍ تناديني تبدَّدت في جوف القبر.. وبدأ اليأس يغزو نفسي.

    فصرخت في داخلي مستغيثاً، بعد أن عُقد لساني واختنق صوتي في صدري :

    _ أمي.. رهبة القبر سلبتني رشدي وأوهنت عزيمتي ،فأين أنت لتؤنسي وحدتي وتبدِّدي القلق عن نفسي ؟  

    _ أمي.. عرفتك منارةً متوقدةً كالاحتراق الذي يعطي للشمعة معناها.

    _ أمي حاجتي لك لا تنقطع.. فأين أنت ؟ مضى وقت طويل على غيابك.. أدركيني بنور وجهك علَّه يجلو ظلام الخوف عن قلبي.

    كأن دهراً من الزمان مرّ عليّ وأنا متقوقع داخل القبر تدور أفكاري حول نفسها، ولا أجد من يطرد عني الهلع والبؤس، حتى سمعت صوتاً آتياً من خارج القبر قائلاً :

    _ أمسك بقدمي أمك.. لقد أقبلت إليك.

    رفعتُ رأسي، فرأيت جثمانها يتدلى كشمس ضحىً قلبت العتمة إلى نور أدخل الطمأنينة إلى قلبي.. وكلما تدلى أكثر في جوف القبر كنت أستعيد رشدي وأرى القبر يتمدد طولاً ويتسع  عرضاً وتعلو جدرانه..

    أذكر آنئذٍ أني نهضتُ بقوةٍ واحتضنتُ جثمانها بين ذراعيّ في شوق ألهب ذاكرتي.. وقبلةٌ من فوق كفنها طبعتها فرحاً، ودارت بنا الذكريات وذرفت العيون دموع الوداع، وشعرت بها بين يديّ كأنها يمامة بيضاء.. عندها أدركت أني نجوتُ من الهلاك بعد أن كان أقرب ما يكون إليّ.

    انحنيتُ بهدوء ومدَّدتُها على مرجٍ أخضرٍ، ورائحةٌ طيبة عبقت في المكان كأنها من ريح الجنة التي قرأت عنها...

    أملتُ وجهها إلى جهة القبلة ووضعت تحت رأسها صرةً من الطيب والعنبر، وعندما هممت بالخروج من جنة القبر كأنه تناهى إلى مسمعي آهةٌ خرجت من صدرها فكانت كلمة الوداع الأخيرة !

   انتصبتُ واقفاً وفي لحظة واحدة تسلقت بخفَّةٍ جدرانَ القبر المضيئة، فوجدت نفسي خارجه تغمرني سعادةٌ وطمأنينة عجِبَ لهما خالي، فاقترب مني ولفّ ذراعه حول عنقي، وهمس في أذني مندهشاً :

    _ ما هذه الابتسامة التي تلوح على وجنتيك ؟ وما الذي قلَبَ حزنك إلى سرور؟!

    قلتُ بثقة واطمئنان :

    _ اطمئن يا خالي.. أعتقد أن أختك في طريقها إلى الجنة.


المقطع الأخير من قصة (الطريق إلى الجنة)

بقلم: نجدت اسكندراني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء