السر في السوق / نجدت اسكندراني

 السر في السوق


تمر سنة بعد سنة، والحرب في البلاد يشتد أوارها.. فتنتج وقائع جديدة من الويلات، والمصائب داخل المجتمع.. وتظهر عورات الناس ومكنوناتهم... 

   لقد ابتلع الصراع المحبة من قلوب الناس. وامتص من الشارع والأسواق ما يحتاج من قانون يضبط تصرفاتهم. وباتت الخدمات شحيحة، لا تلبي حاجاتهم. فتكدست فضلات المتحاربين، مع الحثالات البشرية، على قارعة الطرقات وأزقتها. وتركت وراءها آثاراً عميقة مؤلمة.. تبدت في سلوك الناس. شعوراً من الحقد، والكراهية، والأنانية، ساد بينهم...

   وإذا صادف وتوقف القتال قليلاً _ولا أحد يدري متى يعود_ انكشفت المآسي والخرائب. وعمت فوضى الأفكار بين الناس.. وراحوا كالأغبياء يتجادل بعضهم مع بعضهم الآخر، بلاوعي، ولا معرفة، عما يجري في بلادهم. فتراهم أشداء على بعضهم.. بسبب ولاءات غير واضحة.. يستغل الغني الفقير، ويبتز القوي الضعيف، وغالباً ما كان ينتقل سخطهم _ عند عودة القتال _ إلى داخل بيوتهم...بضرب أولادهم وزوجاتهم.. مما يشي أنهم تخلقًوا بأخلاق الحروب القذرة.   

 ***

   كان عبد الجليل يجد نفسه غريباً، وحيداً، في مدينته، وفي حيه، وبين أهله وهو يجوب المنطقة، يبحث عن محل للخياطة، ويحمل كيساً فيه معطف يحتاج إلى إصلاح سحابه، يقيه شر البرد القادم. ولا يكاد يفرق بين شارع وآخر.. فكل الحارات والأزقة تشابهت بعد أن طالها الخراب.... 

   يا ألله متى تنتهي هذه الحرب ؟...وما سر استمرارها ؟!

   قالها عبد الجليل الأستاذ المتقاعد.. والذي قليلاً ما يخرج من البيت.. وها هو اليوم يضطر للخروج إلى السوق...

   وهنا في سوق المدينة.. وقف يحملق في كل شيء، ويرصد التحولات.. ويهز رأسه، وهو يحاكي في ذهنه صوراً عكست نبض الناس، يريد تفسيراً لها !  هل الحرب جلبت هذه المآسي ؟ أم هذا القبح الذي تعرى من جلده، وشاع،  هو الذي جلب الحرب ؟ وراح يفند الصور....

   فئات هامشية من الناس، وهي طبقة غير مرتبطة بالمؤسسات الحكومية.. أظهرت حقدها على الأغنياء.. فاستغلت ظروف الحرب. وانشغال رجال القانون في محاربة الخارجين عن سلطة الدولة.. وراحت تتسلل إلى البيوت المهدمة، والبيوت الغائب سكانها، في وضح النهار، يسرقون منها الأثاث، وهم يلهجون بالسباب والشتائم، ويتوعدون كل من يعترض سلوكهم.

   صُِبيةٌ شردتهم الحرب، وجدوا المناخ الملائم، فانتشروا في السوق يمتهنون كل ما يهين طفولتهم.. يتطاولون على العجائز.. ويحتكرون_ بمساعدة فران الحي _ الخبز والطحين ...

   ويُحدّثُ عبد الجليل نفسه، حين مر بجانب عيادة طبيب : 

   _ حتى الطبقة المقتدرة سلكت سلوك الحروب القذرة !

   هنا طبيب غائب.. وممرضة تعلل للمرضى غيابه.. بأنه في غرفة العمليات. أو في زيارة مريض في بيته، في حين تحشرهم في غرفة ضيقة ساعات.. حتى يأتي الطبيب متذمراً لمدة ساعة.. ليجمع الأموال ويعاين الناس على عجل.

   هنا دكاكين، فيها تجار، رأس مالهم الأَيمان الكاذبة.. والأصوات العالية... يحتكرون السلع... وينشرون الأخبار بفقدان المواد التموينية.

   ولما همَّ بقطع الشارع إلى الجهة الأخرى..التقى موكباً صغيراً يحمل نعش شهيد على شاحنة حقيرة، يشيعها نفر من الناس...لم يبالِ بها أحد. فوقف هنيهة.. وقرأ الفاتحة  

   وقال عبد الجليل بصوت استعبده القهر : 

   _ لا بواكي لكم أيها الأموات...ولا أنتم أيها الأحياء تستحقون العزاء.

   ويشتد حنقه على الناس فيقول :

   _ لن أبكي بعد اليوم، لن تدمع عيني لأجل أحد، أنا لست منكم. 

   الأستاذ عبد الجليل فقد الأمل بنهاية للحرب...وهو يحاول ترتيب الصور في ذهنه، أيقن أن سر الأمر كله في السوق، فهو مرآة الإنسان لنفسه. أنه يرغب في البوح بما يجيش في صدره..ولكنه الخوف، واليأس من كل شيء... فتمتم بنبرة ساخطة، بعد أن بلغ الألم مداه، يحاكي الأشباح : 

   _ أية حياة هي حياتنا... "صداقات" تحركها المنفعة.. "وزيجات" تعقدها الحاجة.. "ولاءات" ينسجها الخوف.

   وهو عائدٌ إلى البيت، محزوناً، وفي نهاية السوق.. وجد ضالته.. حين وقعت نظراته على لافتة مكتوب عليها عبارة. 

            (الخياط عبد الوهاب _ أبو عبدو _ لإصلاح الألبسة)

   دخل عبد الجليل إلى المحل البسيط، وطلب من "أبو عبدو" تغيير حلقة سحاب معطفه الشتوي. ووقف ينتظر... 

   فجأة دخل صبي، وسأل "أبو عبدو" : 

   _ قالت أمي هل أصلحت الكنزتين ؟ 

   فهز رأسه بالإيجاب، واستدار، وتناول الكنزتين، وأعطاهما للصبي. 

   فقال الصبي، وكان يغلق كفه بقوة على أوراق نقدية : 

   _ قالت أمي : يكفي أربعمائة ليرة أجرة ؟

   قال "أبو عبدو" : _ أربعمائة ! 

   قال الصبي : _ طيب خمسمائة.

   قال أبو عبدو : _ لا..لا.. يكفي مائتا ليرة. 

   نقده الصبي المبلغ وراح يجري فرحاً.

   وبعد أن نزع الخياط حلقة السحاب الجديد، وعلقها على سحاب المعطف قال عبد الجليل : _كم تريد ؟ قال الخياط "أبو عبدو : _ قيمة السحاب خمسة وسبعون ليرة. قال : وكم تريد الأجرة. قال : لم أفعل شيئاً. قال : لا، يجب أن تتقاضى أجراً. قال : طيب أعطني مائة ليرة. 

   قال : _ لا، سأعطيك مئتي ليره. 

   رفض الخياط وأصر أن تكون قيمة السحاب، والأجرة معاً مائة ليرة فقط.

   نقده مائة ليرة، وسحب صندوقاً خشبياً مجللاً بقطعة قماش بالية إلى جانب "أبو عبدو"، وجلس عليه، وقال :

   _ يا أخي يا "أبو عبدو".. أخبرني، كيف تستطيع العيش وأنت تأخذ هذه الأجور الزهيدة.. وكل شيء غالٍ..كم من القطع ستخيط لتحصل على رزق أولادك ؟

   كان "أبو عبدو" قد ضم الخيط في سم الإبرة، وباشر بتركيب زر على كم قميص... رفع رأسه وقال بكل هدوء :

   _ يا أستاذ.. يجب أن يستفيد كل الناس مما علمني الله... أما عن موضوع رزقي فهو على الله.

   ولما مال برأسه ليقطع الخيط بأسنانه... 

نهض الأستاذ عبد الجليل، وخرج من المحل، قبل أن يراه "أبو عبدو"، وهو يبكي.   

 

 

***


بقلم: نجدت اسكندراني


من المجموعة القصصية " و للبحر سلطان "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء