الحصار / محمود محمد أسد

 محمود محمد أسد

 قصة

                      الحِصــَـار


أُمسِكُ بقلمي وأَسرِقُ زاوية من البيت الضيِّق بعد أ ن رحلت عنه الضوضاء . فلا ريب ولا إزعاج ولا قلق . الفرصة مواتية ليسرق الإنسان من بنات أفكاره ويسكبها سلسبيلاً على الورق بعد أن طال الحصار . وامتدَّ أجله فأتصورهُ مجموعة من الخنادق والسراديب . ففي كل فجوة حصار يلاحقني ويغلق في وجهي بوابات الأمل التي تتولد وتنفتح مع كل رِدَّة من هذا الحصار الذي لا أعرف حقيقته . أهو شبح ؟! .

أجل . ولكن متشعب فتجده كالسرطان . ما أن نستأصِلَ ورماً منه حتى تجده قد انتشر في مكان آخر . ولا ينتهي العلاج إلا بانتهاء السرطان واقتلاعه من جذوره .

الحصار يلتف حولي ويغلق المنافذ . يا إلهي ! من أين أبدأ ؟ هل من دليل لدربي المتشعب بالأشواك ؟ هل من طبيب ناجح يستأصلُ هذه الأورام ؟ .

تلاحقني الأسئلة وتصبح ضمن الحصار الذي يلف حباله وشباكه من سنوات طويلة كانت مجحفة وقاسية . سنواتٍ حملت في جُعبتها ألواناً من القهر الإنساني . سنواتٍ زرعت في نفس كل إنسان شيطاناً إنسياً ، يفوق إبليس في أساليبه وما عُرِفَ عنه من مكر ودهاء .. سنواتٍ رَمَتْ حُمَمَها وبذورَها فإذا الأرض خراب والنفوس يباب . أين يضع التائهُ قدَمه قبل أن يخطوَ خُطوةً إلى الأمام ؟ ومن أيِّ زنزانة يخرج ؟! .

أجد صعوبة في الإجابة عن كثير من الأسئلة ؟ وأجد صعوبة في تفسير الكثير من الظواهر         اللاإنسانية . فأينما يتّجِهِ المرءُ الشريفُ الذي ينظر بمنظار العقل والفضيلة يجدْ أمامَهُ طريقاً حافلاً بالمزالق والأهوال . يرى بأم عينيه انهيارَ القيم وضياع المواقف التي زُرِعَتْ في نفسه منقولة عبرَ الآباء والأجداد إلى الأحفاد ، فيقف مشدوهاً .

في كل يوم مئاتٌ من المواقف التي تكوي الفؤاد وتدمي العين ولكن هذا لا يكفي والحديث يطول والعمل ينعدم ، والشكوى تَستفحِل ، والمواجهة تَنْعدم . والكلام على كلِّ شفة عن سوء خُلُقِ المجتمع . الكل يتحدث عما يجري ،  وأنفسُهم يخرجون عن قانون المجتمع وقيمه وأخلاقه . فالحديث استهلاك ومثله الصحافة والمذياع والرسوم استهلاك للمرء . فما عليه إلا أن يستمتع بلذة الشكوى ثم ينام عليها دون التماس عذر أوسعي لتغيير . أجد نفسي قانطاً من تغييرٍ في هذه النفوس.

أستاذي الفاضل : هذه رسالتي لكم . فلم أجد من طرق باب سواك . ألم تزرعوا في نفوسنا تلك القيم الرفيعة ؟! ألم تعلمونا أن الوطن للكل والخير للكل والوطن . وأن الإنسان بما يقدم وليس بما يقول ؟ ..... أذكرك جيِّداً مع نُخبة من المعلمين الأفاضل في أوائل العقد السادس من هذا القرن . والوطن قد نال استقلاله . وخطا خطوة في طريق الوحدة بين سورية ومصر ، وحال الانفصال الأسود دون تكملة هذا الحلم الوردي الذي طالما انتظره العرب بفارغ الصبر . وهل هناك أجمل من صورة المعلم في ذهن التلميذ ؟ لا شك أن الصورة مطبوعةٌ في ذهنه لا تفارقه مهما امتدَّ الزمن . وخاصةً موافقُ البطولة والرجولة . 

علَّمتمونا أن نقف في وجه الدبابات نُسقطُ خرافة الانفصال . ونطالب بالوحدة ... أتصوركم أمامي وأنا في آخر العقد الثالث وأمارس مهنتكم وأخطو خطواتكم . والفارق شاسع . فأنتم وجدتم أرضاً خصبة وعقولاً نيرةً تهذبت على الفطرة . فَلُقِّنَتْ مبادئ الأخلاق والقيم والوطنية من تراب وطنٍ طاهر مرويٍّ بدم شهادة حقيقة من أجل مثل وقضية وليس من أجل أشخاص .

أستاذي أتصورك أمامي بقامتك الفارعة وسمرة جِلدك وزَنْديك المفتولتين وابتسامتِك المتواضعةِ التي تحكي قصتك مع جندي الانفصال وكيف تمكنت منه واستوليت على بندقيته . ولا زلتُ أذكر وأشاهد تلك العلاماتِ الفارقةَ في وسط حيِّنا الشعبي حيث شظايا الرصاص والحفر على الجدران. أليس موقفك هذا يستحق الذكرى؟ بل سوف ينتقل من جيل إلى آخر . 

لقد زرعتم في نفوسنا أسمى القيم . وما زلتم أحياء نشاهدكم ونستأنس بكم . ويشهد الله كم تتجددُ فرحتي عندما أصادفكم . فأستنشقُ كل الماضي وأرشُفُ منه دون أن أرتويَ وأبَلّلُ ظمئي . فلم أعرف واحداً منكم استلم منصباً أو سعى إليه عن طريق الزيف والنفاق . بل بقيتم في عيوننا أسمى من كل منصب أو وظيفةٍ رفيعةٍ جاءت من وراء المداهنة والرياء والتزييف .

أجدكم أمامي وأنتم في داخل القسم آباءً وأشقَّاء توظفون العلم والتربية والتوجيه تقدمون الدواء النافع دون أن ندري . 

يا الله ! كم يهزني هذا المشهد الصباحي ونحن أطفال يحيط بنا الفقر من كل جانب ، والكرامة تعلو رؤوسنا ونحن نردِّدُ طائفة من الأناشيد القومية التي نام عليها الزمان في وقتنا . إنها لحظة التجلِّي ونحن في رتل واحد وفي صوت واحد نردِّد : 

بلاد العرب أوطاني 

 من الشام لبغدان 


ونتبعه بنشيد فلسطين : 

فلسطين نادت فلبوا النداء

      إلى الحرب هيا جنود الفداء

 


ومثله نشيد الثورة الجزائرية : قسماً بالنازلات الماحقات ..........

إنها الأناشيد الخالدة . أدعوكم لنستمع أناشيدنا ولنشاهد طلابنا وهم يؤدون تحية العلم في مدراسنا ..... لا .. لا تحضر.. سوف تفاجأ وتُصدَم بجدارٍ قاسٍ ومرٍّ .

أستاذي الفاضل : رسالتي إليك ليست لفتح جروحٍ قديمة قد التأمت . بل لمداواة أمراض قد استفحلت وتشعبت واستعصى شفاؤها وصعب الموقف والوقوف في وجهها .. وقلَّةٌ من يتأثَّر لهذا الوضع .

لقد تراكمت في وجهي العقبات ، وانفصلت الجسور ، وتقطعت الصلات وامتدَّ الحصار وتغلغل ليصل إلى أضيق المنافذ. فلا أخفي عليك . الفجوة الوحيدة التي لم تزل صامدة فجوة الضمير اليقظ والعقل المتسلح بالصبر والإيمان . وأخشى أن يضعُفَ ويهوي كغيره من الناس الذين فقدوا كل شيء من كيانهم ، ولم يتركوا شيئاً يخافون عليه . أمام هذه المغريات من السرطانات والأوبئة . وأنا في لحظة ضعف . لا أخفي عنك . حولي أكثرُ من زنزانة وأكثر من خندق يحاصرني . أعترف بضعفي أمامكم ، وكلي أملٌ أن تصلك رسالتي قبل أن ينهار هذا الضمير الصلب وهو سلاح الشريف في هذه الحياة .

لديَّ الكثير . ولكن لا أريد سوى كلمة واحدة تكون جرساً وناقوساً وبندقيةً ومستقبلاً وغداً مشرقاً . وإيماني كبير بحكمتكم وتجربتكم . وإن عزلَتكُمُ الأيام جانباً . فلا تظنوا أننا نسيناكم . فلمَّا تزالوا في القلب . نستأنسْ بكم . ونستهدي بهديكم ، ونستمد من فضلكم . وأنتم أرضعتمونا القيم والمثل رَضاعةً بحليبٍ أغلى وأثمن من حليب أمهاتنا اللواتي باعونا بعواطف ولم يعطيننا عقولاً . ولم يزرعن رجولةً وشباباً . وأرجو ألّا أكون قاسياً عليهنَّ .

أستاذي الفاضل ! إن أقسى المراحل وأصعَبها على الرجل عندما لا يجدُ من يأخذ بنصيحته ويجد قوّةً أقوى من سلطانه . فتلميذك نبيلٌ يقف أمام أول سورٍ منيع يعترض سبيله ويواجه أول خندق محفورٍ في بيته . فلا غرابة إن اعترف بعجزه عن إدارة دفة بيته . فالأولاد في وادٍ والأم في واد . والبيت عبارة عن فندق يأوي إليه فهذا حال بيوتنا . الكل يهيم بواديه وعلى طريقته الخاصة ولا تجد من يأخذ بنصيحته . فقد استهلكتهم الثقافةُ المزيفةُ الوافدة من الشارع والتلفاز الذي يشغل الناس عن التفكير بهمومهم الذاتية . نادراً ما تجد حديثاً يهمُّ الوطن ومصير الوطن ومستقبله ومعاناته . ذاك يتكلم عن الرياضة ومشاغلها وملاعبها ولا همَّ له سواها . وأخرى عن عالم الأزياء وأخبار الفنانين والفنانات . والأم لا تعرف سوى قرع أذني زوجها . الجارة الفلانية قد ارتدت ثوباً ثمنه ثلاثة آلاف ليرة وأخرى قد غيَّرت غرفة نومها بعد ثلاث سنوات وأخرى قضت عطلتها الصيفية في أوربا ... وأنا لا زلت أعيش في فقر وحرمان . في نظرها أنني أجدب . وعقلي يابس . وأريد أن أسألها : ماذا أسرق من عقول الطلاب ؟ وماذا تركوا في عقولهم حتى أسرقها ؟ ومن أين للإنسان أن يستمرئ في هذا المناخ الفاسد . وكلماتنا وتوجيهاتُنا يغَطِّي عليها كلام المذياع والصحافةِ والخطابة . فلا أخفي عنك أنهم ينظرون إلىَّ ككابوس أو شرطيِّ مرورٍ يقف في وجه تجاوزاتهم . ولكنهم لا يستطيعون رشوته .

هذا بعض من أحوالي وقد يكون حال الكثيرين في أسرنا . فالكلمة الصافية التي تقولها والموقف الصادق الذي تقفه في بيتك يغرق أمام طوفان من السلبيات والأمراض التي تسربت وتعششت عبر نوافذ ضيقة . ما المصير ؟

أستاذي الفاضل : سوف تكون الرسالة متعبة . وربما تعكر صفو حياتك وأنت تأخذ قسطاً من الراحة في حديقة منزلك المتواضع الذي حدَّثْتَنا عنه وعن اهتمامك بالنباتات المنزلية . آه لو تنظر إلى بيوتنا الآن . لقد استبدَّ بها الإسمنت وأصبحت كعلب الكبريت والسردين مكدسةً لا نعرف صباحَنا من مسائنا وليلَنا من نهارنا .... أطفالُنا ينامون فيها كالدجاج ، ومشاكل الجيران تكاد لا تنتهي إنها نتيجة لزحف قادم من الريف بعد أن أغْرَتِ المدينة سكان الريف فتركوا أرضهم وزراعتهم حتى أصبحت بوراً . فقلَّ الموسم وانعدم الرخاء . وتولدت أزماتٌ وتفاقمت مشاكل . وبالمقابل تجدُ قصوراً وملاعب وحدائق يُصرف عليها بالملايين ويحتار أصحابها في أيِّ بهوٍ يجلسون وفي أيّها يقيمون . منازل للصيف ومثلها للشتاء ... لا تسألني من أين جاءت الأموال ؟ وكيف تكدَّست ؟! .

فالجواب في عيون البائسين الذين تُسرَق لقمة عيشهم من جرَّاء الاحتكارات والاختلاسات ... هؤلاء البائسون تحاصرهم سهام التجار ورماحهم . إن عالمنا محاط بجدار كتيم من البؤس ... لا تقاطعني يا أستاذي ... أجدك تهزُّ رأسك وتفرك يداً بيد .... بدا عليك القلق . أدعوك أن تخرج من عزلتك . ارمِ نظرة على الناس في الشوارع .. إنهم أسماك تفتك ببعضها . سوف تتعجب من تغيير حال الناس وما آلوا إليه . وأين هم عما تركتهم عليه ؟! 

ستجد سمكاً بمختلف أشكاله وأنواعه . منه الأليف والمتوحّش ومنه الصغير والكبير . لو نزلت ورميت بصرك فسوف تُذهل وأنت تشاهد ما وصلتْ إليه النفوس والمجتمع . وعندها تطرح السؤال تلوَ السؤال . وتصاب بخيبة أملٍ مريرةٍ وأنت تحادث نفسك .

أين قيمُنا ؟ أين أخلاقنا ؟ ماذا جرى لهذا المجتمع ؟! وهل تنسى السؤال الذي نسيه الكثيرون . وما الحل بعد هذا المصير ؟ .

في صباح  هذا اليوم لم أجد عزيزاً يفتح لي قلبه ، ويسمع معاناتي . فالكل في سباق غير شريف لكسب لقمة عيشهم ولقمة غيرهم . فلا أذُنَ مهيأة لتسمع . وجدت نفسي محاصراً تحيط بي مجموعة من الزنزانات التي لا تعدُّ ولا تحصى وفهمكم كفاية يا أستاذي .

لم يسعفني كتاب حاولت القراءة فيه . ولم تهدأ ثورتي رغم كلمات زوجتي الباردة ....

(( هذا حال الدنيا . علينا أن نتكيّف معها . أنت تحمل في يد واحدة أكثر من بطيخة )) ولم يخَفِّفْ وطأةَ معاناتي منظرُ الطلاب وهم ذاهبون إلى مدارسهم .. يصحبهم بؤس وحرمان . ويلحق بهم مستقبل ضائع من حدقات أعينهم . بعد أن وجدوا عدم جدوى الدراسة في عصرٍ استفحلت فيه المادة التي أصبحت غايةً في حدِّ ذاتها يسعى إليها الإنسان بالأربع كما تسعى الدابة إلى أكلها وشرابها . لا همَّ لها في الحياة سواهما . يسعى إليها دون رادع خلقي أو ديني . لا حديث للناس إلا عن الدولار والمارك والذهب والبورصة . وهناك أناس يبحثون عن بقايا لسدِّ معدتهم وخداعها ... لا تعجب مما يجري فالقادم أعظم !! 

أتعبتك برسالتي وأنا اعتدت على صدركم الواسع . فلجأت إليه عندما لم أجد صدراً رحباً يسمع ما أريد .. فأنتم لا تزالون قدوةً صالحةً لنا بعد انعدام القدوة وانتشار الفساد والأمراض والضياع . أتصور الحصار يحيط من كل جانب.

فالغزوات قادمة وقوافل المغول والتتر عائدة بأكثر من ثوب . ولا نعرف من نحارب وأيها نقاوم ولمن نستسلم ومن نفاوض . فالجواب عسير وفي كل الأحوال يدنا موضوعة في النار والصراع مرير ، والبقاء مرهون بمواقفنا . فما العمل يا سيدي .؟؟ 

سوف تقول لي بكلمات هادئة وباتزان ألفتُه منك : ((  الإنسان الحقيقي بما يحمل من قيم رفيعة يتسلح بها ولا يتخلى عنها .. الإنسان الحقيقي بما يحمل من قيم ويقف بثبات أمام مغريات الحياة ... ولا أشك في قدرتك على الثبات والمواجهة ... وها أنا أهزُّ رأسي موافقاً وأفرك يداً بيد لأنني أجد ما يُطرح من حلولٍ لا يتناسب مع ما يجري أمامنا ومن حولنا ... )) 

لا أخفي عليك سرَّاً يا أستاذي . إن المرحلة عصيبةٌ والصراع حادٌ . والقوي من ينتصر على إرادته وعلى أهوائه ونزواته ، ويرمي المجد المزيَّف ويقبل على المجد الخالد الذي يزرعه الإنسان ويرعاه بسمو أخلاقه ونبل مواقفه . 

لن أدعك يا أستاذي قبل أن تحرك ساكناً وترفع عن كاهلي ركام الوهم الجاثم من زمان . وقبل أن تفتح لي فجوة أمرُّ من خلالها متجاوزاً هذا الحصار الذي يلف بأليافه ويتشعب بأشواكه . وأنيابه حولنا من كل جهة . عسى أن تكون هذه الفجوة مفتاحَ أمان أو دربَ أمل غائبٍ اشتقنا إليه     كثيراً .... لحظةُ صمتٍ سادت الغرفة . ووميضٌ من نورٍ ساطع يحيط بجوانبها . فشعرت بجلال الموقف وهيبته ... لاح أمامي متسعٌ من الزمان والمكان ... ازداد إحساسي بالهيبة .. القادم شيخ طاعن يمشي بثقة . وفوق رأسه عمامة تحكي قصته مع الزمان والسنين . يحمل بيده اليمنى عصا يتوكأ عليها ، وفي يده الأخرى كتابٌ قديم فيه شيء من التلف ولكنه محافظٌ عليه. أصابني شيءٌ من الذهول . ما كنت أتوقع أن يكون الحلُّ سريعاً لهذه الدرجة . فنحن تجازونا عصر المعجزات . وقف إلى جانبي . رماني بنظرات ثاقبة . هزَّ رأسه بحسرة . تكلم همساً دون أن يفتح فمه .

ألا تستقبل ضيفك ؟ 

.... أجل .... على الرحب والسعة . تفضل . حلَّت البركة بوجودك . فأنتم زادنا لآخرتنا وسراجنا لدنيانا المظلمة . نستدلُّ بكم ونهتدي بهديكم إن شئنا أم رفضنا .... 

ابتسم ابتسامة الرضا . هزَّ رأسه ثانيةً : " رسالتك وصلت في الحال قبل أن تبعثها . قرأتها بتمعن وتابعتها بإحساس . وآلمني حالكم وما وصلتم إليه . يحزُّ في نفسي أن أجدكم في هذه الحالة التي لا تسرُّ عدواً ولا صديقاً .... " 

كانت كلماتهُ مؤثّرةً . فأحسَسْتُ بصِغَرِ حجمي أمامه . وكأنَّ تبعاتِ الدنيا ومآسيها وما يجري فيها أتحمل سببه لوحدي . لحظةٌ من تأنيب الضمير انتابتني . وعودة إلى الوراء . ورحلة مع البحث عن الأسباب والمسببات والحلول ... ووقفةٌ مع النفسِ غيرُ مألوفة . فكلماته كانت هادئة ولكنها موخزة . تمنيتُ أن يرفع صوته ليصل إلى كل جهاز يتداوله الناس. تمنيت أن يثور ويرفع من نبرة صوته ليسمع المتقاعسون والمتهالكون على ملذات الدنيا . ولكنه قرأ أفكاري فإذا به يخاطبني :

" لن أرفع صوتي يا بني ... ما قتلَتْكُمُ إلا أصواتُكُمْ وانفعالاتُكُمْ . همِّشوا الإذاعات وأغلقوا أفواه الخطباء . فأنتم بحاجة لبيان عمل نافع وصادق . ولستم بحاجة إلى خطابة وكلمات نفذت من سجل الأمم . فما رأيك ؟ "

مدَّ يده وأدار ظهره : ( خذ هذا الكتاب الدميم بشكله والمفيدَ بمعلوماته وحكمه . ولا تغرّنَّك المظاهرُ فلا حاجةَ لأن تبعث رسالتك . ففي الكتاب أخبارُ مَنْ قَبْلَكم ومَنْ بَعْدَكم .. خذْهُ ... أمددْ يَدكَ .. لا ترتعش .... تمعَّنْ ما يجري فيه )

ودّعني بسرعة وذاب من الغرفة كما يذوب السكر بالماء . وعاد الوضع الطبيعي إلى الغرفة وانسدَّت الفجوة فرمى الكتاب ستائره عليها ...لم أستطع العودة إلى طبيعتي إلا بعد فترة . فعادت قواي إليَّ وتمالكتُ أعصابي وأخذت الكتاب . تباطأت في البداية وعادت الرهبة من جديد ...          فالحصار هو هو . والمعاناة لم تتغير حتى أنَّ إحساساً يتفاقم ، الزنزانات المتداخلة في نفسي زادت ، فقد أحاطتني زنزانة جديدةٌ وانقبض تيار التفكير . ولا يعرفُ صعوبةَ ذلك إلا مَنْ يعاني الصداع والقلقَ والتردُّدَ وكأنَّ ضيفَنا أرادَ أن يرميَ حِمْلاً ثقيلاً جديداً فوق أعبائي . فلم يتغير إحساسي بالغُرْبة عن نفسي وعن أسرتي ومجتمعي ولم يمحُ تلك الصورة القاتمة عن المستقبل والتي تسيطر عليَّ من فترة مديدة .

تذكرت مواقف أستاذي ونصائحه . فكان يؤكد ويكرّر كلمة " الجرأة " في المواجهة . والعزيمة في الإقدام على الأشياء . عندها خطوت خطوات تجاه الكتاب الذي يواجهني وأخذت الصفحة الأولى منه : (  طريق الضالين وهداية التائهين " قَلَّبْتُ صفحتَهُ الثانيةَ فشعرت باسترخاء انتابني وببهجة سرتْ في أعماقي . وكأن الشيء الثمين الضائع قد وجدتُهُ .. خرجَتْ من رأسي صرخةٌ عمَّت الأرجاء . كررتها لا تعجب من ذلك لأنني وجدت الكلمات الضائعة والمواقف التي يحتاجها المرء في هذه الظروف ...) 

 المواقف تُكتسب من أعمال غيرك . وليس من أقوالهم وتصريحاتهم ... " إذا أردتَ أن تكمل المشوار فلا تيئس . وإذا أردت الخلود فلا تتخلَّ عن قيم أجدادك ولا تنتظره بل اذهب إليه . من كان بلا ماضٍ فليس له حاضر ولا مستقبل " . تأملت هذه العناوين . وتعمقت في مغزاها . وعرفت أنني كنت أهيم في فلاةٍ دون مرشدٍ ودليل . آوي إلى حجرتي وألوذ بالصمت هارباً من المواجهة . قلّبت الكتاب فعدتُ إلى إرادتي أنشدها وأتابعها .

" من أراد استمرار الحياة فليعش لغيره قبل أن يعيش لنفسه . وليكن أول من يضحي وآخر من يستفيد " .

علت وجهي ملامح السرور والفرح . وأيقنت أنني كسرتُ القيد الأول من زنزانتي وأمامي مهمَّةً طويلةً وشاقة ولا بدَّ من مواجهةٍ قويةٍ لكسر وتحطيم الزنزانات والخروج والتحرر من جدرانها الفولاذية .

بعد أيَّام وجَدْتُ نفسي منفردا يخيم علي الظلام بتهمة الأحلامِ والخروجِ عن المألوف والسائد ... 

 


                       --------------------------

القصة منسورة من سنوات طوال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء