في ذكرى رحيل الشاعر بدر شاكر السياب/محمود محمد أسد

 محمو د محمد أسد

في ذكرى رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

ثلاثية الحب و الرفض و المرض في شعر السيّاب


لا أستطيع الحكمَ النهائيَّ على صلاحية العنوان ، و دلالاته في تجربة الشاعر السيّاب . و لا يصحّ ذلك دون الإلمام و الإحاطةِ الشاملة و الدقيقة بجوانب من حياته العامة و الخاصة . و دون معرفة تكوينه و توجيهه . و هذه عوامل هامة و مؤثّرة ، ترفد تجربة الشعراء المبدعين ، و تدعم طاقاتهم الإبداعية التي تحتاج لداعمات ترفع بها ، و تحرِّضها . فالموهبة عاملٌ أساسيٌّ و جوهريٌّ لا غنى عنه ، و لا جدوى من دونها ، تمَّ تأتي التجربة التي تغني المبدع ، و تصقل إبداعَه و ترعاه . و هذا الصقلُ للفنِ و المعرفةِ و التقنيَّة يأتي مع مرور الزمن ، فيطوِّرُ رؤية الشاعر و يشحَذُ موهبته ، فيدخل معترك الحياة و ما فيها من تنافر و تصادم و تجاذب و تنافر ... 

التجربة الإبداعية ترسم معالم الشاعر ، و تنبي عن مستقبله و توحي بتوجُّهاته و تكوينه الذي سيأتي أكله بعد زمن .... الشاعر بدر شاكر السيّاب واحدٌ من شعراء القرنِ العشرين الكبار       و هو ملمَحٌ هام من ملامح مسار القصيدة العربية في  توجُّهاتها الفنيّة و المضمونية ., و هو قامة شعرية أسَّس لقصيدة التفعيلة ، و حدَّدَ ملامحها الفنيّة . 

و هذه الطاقة الإبداعية ، لم تنزل من السماء على حين غرّة . و ليست مُصَنَّعَةٌ في معامل الآخرين ،  و ليسَتْ محمولة على أكتاف الانتماءات ، و إنْ نُسبتْ إليها ، أو التصَقَتْ به . أراها نتاج شاعر متمكّنٍ من إبداعِهِ و أدواته ، و إلاَّ سقط كبقيَّةِ الشعراءِ الذين رفعتهم المنابر و التيارات على مناكبها ، و سرعان ما سقطوا معها أو غيَّروا جلدهم ، و تنكَّروا لتجربتهم السابقة ، و أعلنوا توبتهم في الشكل و المضمون ، و ذاكرة المتابعين للمشهد الثقافي حيَّةٌ و ليسَتْ مثقوبة .... 

اختمرت تجربة السيَّاب مبكّرة ، لأنه امتلك الموهبة ، و تفهَّمَ تقنيَّة الإبداع التي تتطلَّب إلماماً معرفيّاً ، يصقل الموهبةَ ، فدراسته للأدب الانكليزي و مطالعاته لتجارب الآخرين و معاناتُهُ الصحيَّةُ التي قضت عليه شاباً . و يضاف إلى هذا حرصُهُ على القواسم المشتركة للشعر و التي تقوم على الوزن              و الإيقاع دون أن يثورَ على الثوابت . فالتجديد جاءَ واعياً و رؤيتُهُ للشعرِ لم تأتِ من فراغ . بل جاءَتْ مصحوبةً بموروث لغوي و معجمٍ شعريٍّ ثريٍّ ، و يضاف إلى ذلك حسٌّ دافىء ملامِسٌ للحالة الشعرية التي تحرِّضه . و كيف إذا توفّرت الذائقة الأدبية . هذه التجربة ارتقى بها مرضُ الشاعر و بيئته                و ريفُ العراق و قسوةُ الواقع الاجتماعي و السياسي في المنطقة و ما حولها . 

هذا كلام عام و سريع ، و لكنَّهُ مؤشِّرٌ على أهميَّةِ إنماءِ تجربته التي حظيت بالدراسات النقدية ، و ما زالت مجالاً رحباً . في مقتبل العمر و لم يصل إلى سن الأربعين / 1926 – 1964 / ما زالت بحاجة لدراسات دقيقة تتناول بنية الجملة ، و جمالية الإيقاع ، و شفافية التعبير ، و نقاء الموقفِ الذي يعبِّرُ عنه . السيَّاب حَمَلَ معه من جيكور ( قريته القريبة من البصرة ) عبئاً كبيراً من الحبِّ          و الألم و الذكريات ... رسمها على خارطة الشعرِ العربي و نقَلَها معه في صدره و حقيبته و دواوينه ، و هو على سرير المرض في الكويت و لبنان و لندن ..... و حَمَلَ معه من جيكور صفاءَ القلبِ الذي تجسَّدَ بحبِّهِ المثاليِّ لإقبال زوجته التي أوحت إليه مع أولاده بأجمل القصائد .... 

ديوان الشاعر الصادر عن دار العودة ( بيروت عام 1971 ) لم يكمِلْ كلَّ أشعارِهِ و لكنه قدّمه شاعراً كبيراً ، حوى الدواوين التالية ( أزهار و أساطير ، و المعبد الغريق ، و منزل الأقنان ،                  و أنشودة المطر ، و شناشيل ابنة الجلبي .... ) هذه الدواوين  حَوَتْ مجموعة من القصائد التي حملت عنوان جيكور ، و هذا دليل على وفائِهِ و حبِّه و تعلّقه ، و ربّما استخدمها رمزاً . و هذا وارد                   ( جيكور شابت – مرثية جيكور – تموز جيكور – جيكور و المدينة – العودة لجيكور – جيكور أمي – أفياء جيكور ) و علينا أن نعلم أنَّ الدائرة الضيِّقة من حبِّه لجيكور و العراق         و زوجته و أولاده لم تبعدْ عنه صفةً إنسانية جليّةً في شعره فالمنحى الإنساني في شعرِه موجودٌ بوفرةٍ ، و يَحمِلُ الكثيرَ من رؤيته و معاناته و رفضِهِ ( الأم و الطفلة الضائعة – ربيع الجزائر – غارسيا لوركا – الأسلحة و الأطفال ... ) 

إنَّ مَرَضَ الشاعر الذي أرهقه و لاحَقَه إلى آخر يوم من حياته لم يبعدْه عن الهموم الأخرى . فالكثيرُ من القصائد يلتحم فيها الحبَّ و الرفض إلى جانب المرض . و هذه سمة بارزة في تجربته ، ربّما تأتي مع شعراء معدودين ، و لكن تغلب حالة على أخرى فهناك شاعر يتملكه الحبّ و يسيطر على مسارِ إبداعِهِ ، فيكثر من الغزلِ و ينوِّع بتجربته كعمر بن أبي ربيعة ، و هناك شاعر يكثر الرفض في شعرِه و التمرّد على المجتمع و الأعراف كأبي نواس و الحطيئة . و قد نجدُ للشاعرِ نفسهُ قصائدُ في الحبِّ أو في الرفضِ أو في وصف المرض و لكن قلما نرى قصائد متعدِّدة يندمج فيها الحبُّ و المرض و الرفض لتشكّلَ ملحمة شعرية متكاملة الجوانب عند شاعر غيره . في قصيدة           (( أهواء )) و ذيَلَ العنوان ( إلى المنتظرة – و المؤرخة عام 1 / 2 / 1947 و هي من بداياته الشعرية              و جاءت على نمط القصيدة العمودية ، تحتفي القصيدة بهذه العلاقة . و القصيدة مؤلفة من مقاطع مُنوّعة الروي و القافية : 

لعينيك ، للكوكبين اللذين لنبعين ، كالدهر ،لا ينضبانلعينيكِ ينثالُ بالأغنيات 


يصبّان في ناظريَّ الضياءْو لا يسقيان الحيارى الظماءفؤادٌ أطال انثيال الدماء

و يقول : 

مشى العمرُ ما بيننا فاصلاً و لكنَّه الحبُّ منه الزمانًأراها فأنفض عنها السنين فتغدو و عمري أخو عمرها 


فمنْ لي بأن أسبق الموعدا؟ ثوانٍ ، و ممَّا احتواهُ المدى كما تنفضُ الريحُ بردَ الندى و يستوقفُ المولدُ المولدا

القصيدة طويلة و مبشِّرة ببدايته الرومانسية الحالمة ، و تقدِّمه شاعراً بديعَ الخيالِ شفيفَ المعاني              و لكنَّها تنبئ عن صراعه مع الآلام التي تمهِّدُ لآلام أعظمَ و أكثر إيلاماً ، و لكنَّ نبرة الحزنِ الموحية غُلِّفَتْ بالحبِّ و الصبر و المواجهة :

كان الهوى وهماً يعذِّبني الحنين إلى لقائِهِ

ساءلْتُ عنه الأمنيات ، و بتُّ أحلم بارتمائِهِ

زهراً و نوراً في فراغٍ من شكاةٍ و ابتهال ...

في ظلمة بين الأضالع تشرئبُّ إلى ضيائِهِ .

فالمقطع يمتزج فيه الحبّ مع العذاب و المرض و البحث عن أمنيات لم تتحقّق ، و لكنه يسطع فـي مقطع آخر من القصيدة التي يتنامى فيه دفق الشعر : 

شعَّ الهوى في ناظريها ... فاحتواني و احتواها و ارتاح صدري ، و هو يخفق باللحون على شذاها فغفَوْتُ أسترقُّ الرؤى و الشاعريَّة من رؤاها و أغيب فـي  الدفء المعطِّر ... كالغمامة في نداها 

 فالحبُّ و الاقتراب من الحبيبة داوى آلامه و أضاء ظلمة الصدر و الضلوع . و فـي مقطع آخر يتمسك بالحبِّ و يقاوم المرض و يتحداه بالحوار معه و مخاطبته في مقطع يوحي بالكثير : ص 45 

يا موت .... يا ربَّ المخاوف ، و الدياميس الضريرة اليوم تأتي ؟ ! مَنْ دعاك ؟ و من أرادك أن تزوره ؟ أنا ما دعوتك أيها القاسي فتحرمني هواها دعني أعيش على ابتسامتها و إن كانت قصيرة 

تقوى العلاقة بين الحبِّ و المرض و الرفض في هذا المقطع و تبلغ القصيدة ذروتها في هذا العناق : 

لا ! سوف أحيا ، سوف أشقى ، سوف تمهلني طويلاًلن تطفىء المصباح ، لكن سوف تحرقه فتيلاًفي ليلةٍ .... في ليلتين ..... سيلتقي آها فآها حتَّى يفيض سنا النهارِ فيغرق النور الضئيلاً !! 

إنها نهاية تراجيدية لصراع طويل و مواجهة صعبة عبَّرَ عنها الشاعر بروح رومانسيَّة تتلبَّسه بعفويةٍ           و صدقٍ ، و في قصيدة ( لن نفترق ) ص 52 عام 1948 و العنوان يربط بين الحبِّ من جهة و الرفض من جهة أخرى و مطلع القصيدة : 

هبَّتْ تُغَمْغِمُ (( سوف نفترق ))


روحٌ على شفتيك تحترقُ 

يختمها الشاعر مختصراً الحوار الساخن الذي وظَّفه فنياً : 

أختاه ، صَمْتُكِ ملؤهُ الريبُ أختاهُ لذَّ على الهوى ألمي هاتي اللهيبَ فلَسْتُ أرهبهُ ، ما زلْتُ محترقاً تَلْقَفُني سوداءُ لا نورٌ يضيء بهاهي ومضةٌ ألقى الوجودُ بها هاتي لهيبكِ ، إنَّ فيه سناً 


فيمَ الفراقُ ؟ أَمالَهُ سبب ؟فاستمتعي بهواكِ و ابتسمي ما كان حبُّك أوّل الحممِ نارٌ من الأوهامِ كالظلمِ كرقادِ حمّى دونما حلمجذلانَ يرقص عاريَ القدمِ يهدي خطايَ ... و لو إلى العدمِ 

القصيدة تقدِّم شاعراً غزليّاً متمكّناً من التعبير عن مكنون حبِّهِ فيرسم أبعادَه النفسية من تعلّق             و ألم و رفضٍ معاً . فالرفض بالعنوان و الحبّ بالعنوان و الألم في ثنايا القصيدة . 

في قصيدة (( وداع )) تتجلّى روح السيّاب الرافضة و العزيزة ، و تبرز لغته الصافية القادرة على الغوص في أعماق الحالةِ الشعرية التي عبَّرَ عنها الكثيرُ من الشعراء ، وكلُّ حسب أسلوبه و رؤيته رأى في الوداعِ موقفاً يرفض الاستسلام رغم الحبِّ و رغم آلام الصدر . 

تقودُ القصيدة السياب إلى رومانسية شاحبة تحتفي بالحزن العميق و الألم البادي و الرفض الثائر             و تمجيد للوجع و الصراع و ذلك في مقاطع تشكل وحدة عضوية متكاملة ص 56

أريقي على ساعديَّ الدموع فهيهات ألاَّ أجوبَ الظلام فلا تهمسي : غاب نجمُ المساءِ


و شدِّي على صدريَ المتعبِ بعيداً .... إلى ذلك الغيهبففي الليلِ أكثرُ من كوكبِ

و يقول : 

ستنسين هذا الجبين الحزين و غابَتْ ، كحلمٍ ، وراء التلالِستنثرها الريح عمّا قليلٍ


كما انحلَّتِ الغيمةُ الشاردةْبعيداً ... سوى قطرةٍ جامدة و تشربها التربة البارده 

خيال رومانسي ، استفاد منه الشاعر للتعبير عن مشاعره و رفضه و آلامِهِ ... و يذكّرنا بأبي القاسم الشابي الذي وجد في الطبيعة ملاذاً للتعبير عن آرائِهِ و حبِّهِ و رفضِهِ و معاناته . و هذا حال أغلبِ الرومانسيين . 

و في قصيدته (( لا تزيديه لوعة )) ص 59 تشبُّ روحُه المعذّبة مُنْتَفضةً و ناطقةً باسم أوجاعِهِ و حبِّهِ ، يتوجَهُ إلى الحبيبة : 

لا تزيديه لوعةً فَهْوَ يلقاقرِّبي مُقْليتك من وجهه الذاوي و انظري ، في غضونِهِ صرخةُ اليألهفةٌ تسرق الخطى بين جفنيه 


كِ لينسى لديكِ بعض اكتئابِهِ تريْ في الشحوبِ سرَّ انتحابه سِ و أشباحٌ غابرٌ من شبابه و حلمٌ يموتُ في أهدابِهِ 

ألا تدلُّنا هذه القصائد على بدايةٍ جميلةٍ في شعر السيّاب و هي بداية تليق بشاعر مفعم بالحبِّ و الألم . و انطلاقةٌ للعفوية الشعرية التي لا يجرحها التكلّف  تراه رسَّاماً من نوعٍ فريدٍ ، الطبيعةُ يستحضرها بشكل مؤثرٍ ، فيعيد دراستها و يبثُّ فيها روحه ، و يضاف إليها امتلاكُهُ لمسارِ القصيدة فنيّاً و نفسياً و لذلك أعتبره  في بداياته أحدَ رموز الرومانسية و قد أُهْمِلَ هذا الجانب من شعرِه في الدراسات التي التفتت إلى تجربته في قصيدة التفعيلة و التي ربطوها بالإطار السياسي               و الإيديولوجي رغم أهمية ما كتبوه في هذا المنحى . و لكن التجارب الأولى للشعراءِ تغضُّ البصيرة عنها رغم أهميتها و هي إحدى المحطّات الأساسية للأدباء ، و بعضهم يتناساها أو يتجاهلها و ربّما يتنصَّل منها ... و هذه خيانة للإبداع . 

في قصيدة (( سجين )) ص79 ينتفض الشاعِرُ من أحلامِهِ إلى واقع أكثر قسوةً و أمرَّ تجربة ،                     و هو عالم السجن الذي أكثر المفكرون من وصفه ، فيتكلم على لسان السجين و يوجّه الخطاب إلى الأنثى ، و ربما تكون حاملاً فنيّاً لرفض الواقع الراهن و هو الذي شكّل نقلة نوعية في تجربة الشاعر المتنوِّعة : 

أصيخي ! أما تسمعين الرنين أصيخي ... فهذا صليلُ القيودِزمانٌ ... زمانٌ ... يهزُّ النداءُأصيخي أما تسمعين الرنين 


تدوِّي به الساعةُ القاسيةْ ؟؟و قهقهة الموتِ في الهاويةْ !فؤادي .... فأدعوكِ ، يا نائية ..تدوِّي به الساعة القاسية ...

و في المقطع الأخير يتجسَّد الأمل و الحبَّ و الرفض معاً : 

أعدُّ الليالي خلالَ الكرى فلا تيئسي – أن تمرَّ السنونَ سأبقى وراء الجدارِ البغيض 


و أرعى نجوم الظلامِ العميق و يطفينا في وجنتيكِ البريق و عينايَ لا تبرحان الطريق 

في هذه القصائد لا يبرز الشاعر مَرَضَهُ بشكل مباشر ، و ربّما لم يشكِّل عائقاً بعدُ و لكنَّ القصائد تكشف عن نفسٍ حزينةٍ و جسدٍ مكابرٍ على المرض و الداء ... فالسيَّاب انتصَرَ على دائِهِ    و معاناتِهِ بما امتلكه من شعرٍ فيَّاضٍ و حارٍّ فيقول في قصيدة أفياء جيكور ص 186 : 

أفياءُ جيكور نبعٌ سال في بالي / أبلُّ منها صدى روحي .... /في ظلِّها أشتهي اللّقيا ، وأحلم بالأسفار و الريحِ / و البحرِ تقدح أحداق الكواسج في صخابه العالي / كأنَّها كسَرٌ من أنجم سقطتْ / كأنّهاسُرُجُ الموتى تقلِّبُها أيدي العرائس من حالٍ / إلى حال . /أفياءُ جيكورَ أهواها / كأنَّها انسرحت من قبرها البالي / من قبرأمي التي صارت أضالعها التعبى و عيناها / / من أرض جيكورَ ... ترعاني و أرعاها / ..

فالسيّاب تتعدَّد عنده مناهل التعبير من صورة و لفظة و ترميزٍ إلى اقترابٍ محسوسٍ بالحالة الذهنية التي توافيه و تلح عليه ... و تنتابه أحياناً لحظاتُ ضعفٍ يسمو بها حسُّه الغنيُّ و شعريَّتُهُ الراقية فتشدُّكَ القصيدة شكلاً فنيّاً و مضموناً مؤثّراً ، فيقول في قصيدة / الوصيَّة / ص 217 

إقبال يا زوجتي الحبيبة / لا تعذليني ما المنايا بيدي / و لستُ ، لو نجوْتُ بالمخلّد / كوني لغيلانَ رضىً و طيبه / كوني له أباً و أمّاً و ارحمي نحيبه / و علّميه أن يُذيلَ القلب لليتيم و الفقير /           و علّميه . /

 فالحبُّ لزوجته و لابنه غيلان يفوقان إحساسَه بالألم و اقترابِ الموت و الرفضُ يتمثّل باستمرار الحياة من خلالِ ابنه الذي سوف تلقنه أمُّه دروساً في العطف و الحنو و الخير  و تشتدُ وطأةُ الرفضِ للمرض و الاستكانة له ، عندما يعبِّرُ عن حبِّه للعراق و شوقِهِ إليه ، و رغبته الملحَّة بالعودة إليه في قصيدة ( خذيني ) ص 242 

/ خذيني إلى صدرك المثقل / بهمِّ السنين / خذيني فإنّي حزين / و لا تتركيني على الدربِ وحدي أسيرُ إلى المجهَلِ / و كانت دروبي خيوط اشتياق / ووجدٍ و حبٍّ / إلى منزلٍ في العراق / تضيء نوافذُهُ ليلَ قلبي / إلى زوجةٍ كان فيها هنائي / و كانت سمائي /.

 التواشجُ في قصائده جليٌّ ، فهناك تضافر بين الذات المكتوية و الآخر المعذّب ، بينه و بين العراق ، بينه و بين زوجته ، بينه و بين ذاته المعذّبة التي ينعشها بالشعرِ و يداويها بالبوحِ الشفيف فيحاول أن يجلو عنها الصدأ . من سفر أيوب ، و فيه يلخّص الشاعر قسوة المعاناة و مرارة الحياة ... و يعلن شيئاً من انحناء نفسِهِ التي يسمو بها رقيُّ شعرِهِ و حساسيته المرهفة و في هذه القصيدة تبرز وطأة المرض  و القهر عليه فنداؤه انكسارٌ، و لغتُهُ مغسولةٌ بدموعِ الوجع : ص 254 

بعيداً عنك ، في جيكور ، عن بيتي و أطفالي / / تشدُّ مخالبُ الصوّان و الاسفلتِ و الضجرِ ... / على قلبي ، تمزِّق ما تبقى فيه من وترٍ / يدندنُ : (( يا سكونَ الليلِ ، يا أنشودةَ المطر ... ، / 

/ تشدًُّ مخالبُ المالِ / على بطني الذي ما مرَّ فيه الزادُ من دَهَرِ .... / عيونُ الجوعِ و الوحدة / نجومي في دجىً صارعْتُ بين وحوشِهِ بَرْدَه / و إنَّ البردَ أفظعُ ، لا ... كأنَّ الجوعَ أفظع ، لا .... فإن الداءْ / يشلُّ خطايَ يربطها إلى دوّامة القدرِ / و لولا الداءُ صارعْتُ الطوى و البردَ و الظلماء ... / 

القارىء لشعر السيَّاب يحتاج إلى نظرة متأنيَّة قادرةٍ على ربط عناصرِ القصيدة . و هي نظرةٌ تتطلّب عدّة قراءاتٍ ، فالسيَّاب مزيجٌ من الحبِّ و الحزنِ و الرفضِ ، و لكنّه كائنٌ بشريٌّ في كيانِهِ إحساسٌ ، و في فؤادِهِ شعورٌ ، ينبي عمَّا يقاسيه . فشعره صورة صادقة عن نفسِهِ ، و شعرُه صورةٌ عن ثقافتِهِ و عمق تجربته ، في قصيدة / قالوا لأيوب / ص269 و ما أيّوب إلاَّ حامل فنّي .

في هذه القصيدة ملمَحٌ فنّيٌّ قصصيٌّ يبعث في القارئ الإعجاب ، فتشدُّه القصيدة بحواريتها التي تعرِّي معاناة الشاعر و تكشف حلمّهُ و أمله في تجاوز المحنة و العودة إلى بيته و زوجته . 

/ يا ربِّ لا شكوى و لا من عتاب ، / ألستَ أنتَ الصانعَ الجسما ؟ / فمَنْ يلومُ الزارعَ التَّمَّا / من حولِهِ الزرعُ ، فشاء الخرابَ / لزهرةٍ و الماءَ للثانية / هيهاتَ تشكو نفسي الراضيةَ / إنّي لأدري أنَّ يوم الشفاءِ / يلمحُ في الغيب ، / سينزع الأحزانَ من قلبي / و ينزعُ الداءَ ، فأرمي الدواء / أرمي العصا، أعدو إلى دارنا ، و أقطف الأزهار في دربي/ ألمُّ منها باقةً ناضرةْ /أرفعها للزوجة الصابرة / 

للسيَّاب قدرةٌ فنيَّة على لملمةِ جراحِهِ المؤلمة و عذاباتهِ ليصنع منها طاقة شعرية فوَّاحةً بعبير الشعر          و أريج نَفَسِهِ ، فتنسى آلامه أمام رونق عبارته و مشهدية قصيدته التي تشكل في غالب الأحيان لوحةً تضِجُّ بالحياة ، و ما فيها من حبٍّ و ألم و مرضٍ . و لذلك وَجَدَ فيه النقادُ و الدارسون أنموذجاً لاكتمال قصيدة التفعيلة التي أنتجها شاعرٌ مثقَّفٌ متألّمٌ تسلَّح بالرؤى و الرؤيا ...

فيقول في قصيدته الأسلحة و الأطفال : ص 563 

و كم من أبٍ آيبٍ في المساء ِو قد زمَّ من ناظريهِ العناء تلقَّاهُ في البابِ ، طفلٌ شرودٌفتنهلُّ سمحاءَ ملءَ الوجودِ 


إلى الدارِ من سعيهِ الباكرِ ، و غشَّاهما بالدمِ الخائرِ يُكَرْكِرُ بالضحكةِ الصافية و تزرَعُ آفاقهُ الداجيه 

نجوماً ، و تنسيه عبء القيود 

هذه روحُ السيّاب و هذا نبضُ شعره الذي يمورُ بروحِهِ التي ارتدت ثوب الصفاءِ ، تراهُ واقفاً شامخاً ، يبثُّ فيك روح الأمل ، و يحرِّك روحَكَ المنهكة ، فتنتقل إلى العالم الأرحبِ .... يشعل الشموعَ في دربك ، و يضيء ظلماتٍ استوطنت أعماقك المظلمة.

 في شعرِهِ تتآزَرُ المشاعِرُ لتشكِّلَ مزرعةَ الحبِّ في صحراءَ مجدبة . و تحيك ثوبَ البهاءِ المأمولَ في معترك حياةٍ تريهِ نهايته و ترسم له طريق الموت                و الوداع الأخير لزوجته فيقول في قصيدة ليلة وداع : و يهديها إلى زوجتي الوفيّة ص 649 

/ كلُّ ما يربط فيما بيننا محضُ حنين و اشتياقِ / ربّما خالطه بعضُ النفاقِ / آهِ لو كنتِ كما كنتُ صريحه / لَنَفَضْنا من قرارِ القلبِ ما يحشو جروحَه / ربّما أبصرتِ بعض الحقدِ بعض السَّأم / خصلةً من شَعْرِ أخرى أو بقايا نَغَمِ/ زرَعتْها في حياتي شاعره / لستُ أهواها كما أهواكِ يا أغلى دمٍ ساقى دمي / إنَّها ذكرى  و لكنَّك غَيْرى ثائره / من حياةٍ عشتُها قبل لقانا / و هوىً قبل هوانا / أو صدي الباب غداً تطويك عنّي طائره .. / غيرَ حب سوف يبقى في دمانا ... / 

هذا فيضٌ شعوري يلمِّحُ و لا يقرِّر ، و يهمِسُ بأرق العبارات فيرسم لوحاتٍ كائنةٍ تستوقفك و تبعث فيك العطف حيناً و التقديرَ و الإكبارَ لتجربة هذا الشاعر الذي ألبَسَ الشعر رداءً عفيفاً يشفُّ و لا يفضح يصرِّح و لا ينهك يجدِّدُ و لا يسرفُ .... 


المرجع : الأعمال الكاملة لبدر الدين السيّاب إصدار دار العودة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء