تبقى وجهة نظر/محمود محمد أسد

 محمود محمد أسد                    تبقى وجه نظر التوازن بيـن إبـداع المبـدع وسنّـه

الوسط الثقافي ساحة واسعةٌ وعميقة لطرحِ الأسئلة التي تولِّدُ أسئلة لا تنتهي . وهذا سرُّ الإبداع ومبعث ديمومته وحيويته . فثقافة لا تثيرُ أسئلة و لا تطرح أفكاراً ولا تستدعي نقاشاً وحواراً هي ثقافة محكومٌ عليها بالموت والفناء قبل ولادتها . فلا بقاء لفكرٍ لا يوحي ، ولا ينشِّط الذهن ، ويشحذ العقل ويحرِّضه ، ولا يخلَّدُ إلا العقلُ الباعثُ للتفكيرِ والتساؤلات . فهو موحٍ للبحثِ والتنقيب ويضاف إلى ذلك أنَّهُ ينمِّي الشخصية ويصقلها فيشدُّ المتابعين لها إكباراً وتقديراً .

بناءً على هذا الكلام الذي قد يعترض عليه الآخرون أتوقَّعُ ردَّة فعلٍ وآراء تقتربُ ومثلُها تبتعدُ فيما سوف أقوله وأعبِّرُ عنه . ما بقي من ذاكرتنا وحفظنا وتناقلته الأجيال مواقفُ متنوعَّةٌ ولكنَّها مثيرة للجدل وباعثة للإعجاب والتساؤل .

ما الذي جَعَلنا نعْجَبُ بنزق طرفة بن العبد وغروره ومذهبه؟

هل لأنَّنا نوافقه على ما قال؟ هَلْ لأنه قدَّم فلسفة فحسب؟ أرى لأنه عَبَّرَ عن سنِّهِ وشبابهِ . فلو قال آخر وبسنِّ الشيخوخة ما قاله لنَفَرْنا منه وتريَّثْنا بالحكمِ عليه وقلْنا تصابى الشيخ الجليل .

وبالمقابل ما الذي دفَعَنا للإعجاب والتأمل في حكم زهير بن أبي سلمى ونظرته للحرب والحياة والعلاقات الإنسانية ؟ أرى شيخوخته وما اختزنته من مشاهدات وتجارب كانت الخطاب المقنعَ بيننا وبينه . فالسنُّ يدفع الاخر لأن يتوازن ، فإني لا أنتظر من أديب كبيرٍ أن يحدِّثني بلسانِ الشباب بل أتوخى منه توظيف رؤيته وخلاصةَ حياته وما اكتسبه وإن عبَّرَ عن الشباب فلا بدَّ من إسقاط رؤيته …. فالسنُّ يلاحق الإنسان على مستوى لباسِهِ وما يليق به ويناسبه . ومجلسه وما يناسبه من حديث والتعامل مع روح الشباب مرهونةٌ بشخصيته وما تختزنه من تجربة .

كثر الحديث عن ظواهر أدبية تناسى فيها أصحابها حقيقة الحياة ومغزاها وراحوا يجولون ويسرحون وكأنهم أولاد العشرين . لا مانع من ذلك إن كانَتِ الأمور متوازنة.

فغزل الشباب غيرُ غزل الشيوخ . وغضب الشباب غيرُ غضبِ الكبار وحبُّهم يختلف وتجربتهم تختلف ومع ذلك تشتدُّ الحاجة لأدب حامل بصدق التجربة والمعاناة وإلاَّ احتلَّ كل واحدٍ دور الآخر . ومثل هذه الظواهر هناك من يجدُ تفسيراً نفسيّاً لها . وهو تفسير لَيْس لصالح الأديب ، بل يَضَعُ في دروبه الأشواك . فأبو نواسَ كان صادقاً مع نفسه وإبداعه مرتين عندما كان ماجناً يتلذَّذ بالخمرةِ والغلمان وعندما عاد إلى ربِّهِ في شيخوخته لأنه لم يعد قادراً على تقديمِ شيءٍ يقبله الآخرون..

في الأدبِ يلاحِقُ العمرُ الإنسانَ ويحفُرُ في ذاكرته ويقدَحُ في ذهنه . ما أحوجنا إلى أدبِ الشباب المليء بالعنفوان والحماس والنزق والاحتجاج والشك الإيجابي الملهم والموحي ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وما أحوجنا إلى أدب الكهول والشيوخ الذي يحفل بتجارب الحياة فيغنينا بتأملاته ونظراته ورؤيته . هو أدب فيه عصارة العمر ومَصْلُ الحياة وعندها يتلاقى الشباب مع الشيوخ

ما قلْتُ إلاَّ وجهةَ نظرٍ خاصة ولا أعني بها إنساناً معيناً وهي وجهة نظر قابلة للنقاش فمن يفعَلُ ذلك؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء