الراهن الثقافي في مواجهة الأسئلة الكبرى / محمود محمد أسد
الراهن الثقافي في مواجهة الأسئلة الكبرى
محمود محمد أسد
الراهن المعاشُ الذي لم يعدْ يخفى على أحد ولاّدُ أسئلة على درجة كبرى من الأهميّة، ولا يحتاج إلى زيادات في التأطير والتنظير والتعالي والتبرير. هذا الراهن الذي يعِجّ ، ويضِجُّ من سعير الواقع الحافل بالمستجدّات والأزمات والقلق الإنساني، ولا يمكن لامرئ واع إنكار قلقه إلاّ إذا كان من كوكب آخر.وهل يقدر المشهد الثقافي بما يحمله من تركات ثقيلة أن يكون فاعلا في خضمّ هذا الواقع المسكون بالغضب والدّم والخروج عن النصّ أيّاً كان مصدره شرعيّا أو مدنيّا أو عرفاً.هل بإمكانه أن يمسك زمام الأمور، ويُشعل مصابيحه التي خفتت، وابتعدتْ وتناءتْ وراء ما يُسمّى " فخّار يكسّر بعضه" ؟ هل استسلم البقيّةُ من رجاله ، وتقاعدوا قبل سنّ الشيخوخة ؟ هل أُحيلوا مرغمين إلى التقاعد ورضَوا بالمكاسب، واعتبروها غنيمة لا يوازيها ولايساويها دم ولا دمعُ النّاس الذين سُحلوا في الشّوارع؟هل وضعنا رؤوسَنا على الوسائد الحريريّة، ورحنا نستدعي أحلامنا الورديّة؟ هل يكفينا عمود في صحيفة نفرَ الناس منها لأنّها تخلص لما يناسبها في كلّ شيءٍ عدا الدماء والدّموع؟
في هذا الخضمّ المأساوي ترانا نتحاور، ونتصادم ، ونختلف من أجل صورة فنيّة أو انزياح لغويّ .
لا يهمّنا سوى رؤية صورِنا وأسمائنا ، ويشتدّ أوارُغضبنا إذا لم تكنْ صورُنا واضحة ، أو لم يكنْ اسمُنا كبيرا وفي أعلى الصفحة. لا أسعى إلى جلد الذات التي لم يعنِها من أمرها إلاّ القشور والمظهرُ من هذه الحياة.
هل وقعنا في فخّ من همّشنا واعتبرنا صغارا، لا صوت لنا، ولا نخيفُ أحدا، ولا نغيّر شيئا ممّا يجري حولنا؟ هل أقدمْنا بأنفسنا على تهميش وتصغير كياننا دون دراية ، ودون كشف مبكّر لأورامنا المتضخّمة؟ هل امتلكنا الشّجاعة والصّراحة، وأعلنّا استقلالنا من المشهد والانسحاب من تحت مظلّة من وظّفونا كتبةً وأدباء برسم التحصيل عن كلّ كلمة وموقف؟ أرضونا بأمسيّة أوندوة أو محاضرة أو سفرةٍ استجمامية ، ولكنّنا لم نسأل أنفسنا عن جَنْينا، ولا عن جِنايتِنا بحقّ الكلمة والآخرين وأنفسنا. فمن يملك الشجاعة ويعلنها على نفسه قبل غيره؟ أرى نفسي كثيرغلبة على هؤلاء الذين استكانوا إلى الواقع، وغيّبوا أنفسهم.
المشهد الثقافي الذي ارتضى على نفسه أن يكون تابعا ومصفّقا ، ومتأهّبا للتوقيع على كلّ البيانات باسمه ونيابة عن الآخرين أتصوّره افتقد "البوصلة"وضيّع مقود التوجّه، وكسرنظاراته التي يستخدمها للقرب والبعد، واستماح ضميره، وسأله المغفرة والدعاء له بطول الضعف، وموت البصر والبصيرة في هذه الظروف التي فضحت المستور، وعرّت تجار الكلمة.
ما يجري أمامنا ليس بالأمر المسكوت عنه، وليس بالأمر الذي تكفيه كلمة تنديد، ما يجري طوفان ناريٌّ ينطلق بعنف وشدّة كانطلاق البرق وقصف الرّعد ، ينطلق ليشعل الأخضر واليابس والأصفر والأبيض، ليكتب على ما تبقّى من سواد الصفحات. إنّه يهدّد زوال أمّة، ويهدّد وجودها وهوّيتها وتاريخها وتراثها. ما يجري يضعُنا على جرف هارٍ ، يُنذرنا بالموت الذي لا يشرّف أحدا، بالموت القادم، ونحن مازلنا نردّد الأغاني والأناشيد ونشيّد الصّروح والأصنام والأوثان . وكأنّنا بعْنا ذواتنا وأنفسنا وثقافتنا_ إن كانت حيّة_ لغيرنا الذي اشتراها بخبطة يده وقدميه ورجالاته المأجورين والموظفّين.
ماالذي قدّمه الراهن الثقافي في هذا الواقع المأزوم ؟منذ أعوام وعقود واكثر تغلي الأرض العربية بالأوجاع والغضب والثورات، وتسكب الدماء، وتقدّم الضحايا، ما زلْتُ أبحث في القشّ والرمل والتراب عن موقف جادّ حقيقيّ، يليق بالمؤسّسات الثقافية التي ما عادت تغار على اسمها وكيانها. لقد وقفتْ على حافة الضياع ، وأعلنت إفلاسَها الذي كان يسترُه موقعُها والإعلام بقليل من ورق التوت الشفّاف.
مثقّفونا سامحهم الله وُظِّفوا لصالح دوائرهم ومؤسّساتهم وطوائفهم وانتماءاتهم الأيدلوجيّة الضيّقة ، وتناسَوا أمرا هاما ومصيريّا تعصف به الأنواء ، ولا يجدُ الربّان الحاذقَ الحكيمَ القادرَ على إدارة المركبة. فتّحتِ الأوطانُ عينيها فجأة لترى يتاماها في الميادين والساحات، يكبرون على الجرح والواقع، ويعطون الدروس لمن أحبّوا تبادلَ الكؤوس في أرقى الأماكن ليناقشوا القضايا المصيرية .
أرى نفسي قاسيا وربّما جائرا على بعض المثقّفين الذين ذاقوا كأس الحريّة، ودافعوا عنها بالقلم والدم والمداد والمال ، وهؤلاء تقف اليراع إجلالا وتقديرا لهم.
ما زلنا نبحث في الجزئيات الكاسدة والصدئة، وننسى اللّبّ والجوهر، ما زال الغالبية تابعين للآخر في التفكير والنظر متناسين البعد الأوسع من الحقيقة. لقد استيقظتِ الشعوب على طريقتها الخاصّة ، ولقّنت الآخرين درسا بالمواجهة والمطالبة على حدّ القول القديم ": الولد الذي لا يبكي لا ترضعه أمّه" يقظة المثقّفين مازالت معلّقة في الرفع والنصب والجرّ، ولا أقول ذلك استهتارا بالعربية وتقليلا من شأنها، فهاهم رفعوا الأقلام جانبا ونصبوا المشانق للكلمات، وجرّوا علينا وبالَ تكتيكهم وتقلّباتهم فانظروا، وتابعوا بدقّة المسموعَ والمرئيَّ والمقروء .
تتنامى الأسئلةُ المتاخمة لأوجاعنا والملاصقةُ لأقلامنا، تدرك عجزنا، وتعي معنى صمتنا، وتحفظ مسارنا عبر عقود من الزّمن الذي زيّفت فيه الكثيرمن الحقائق ، وشوّهتْ الكثير من الإبداع والجمال. تدرك مدلول الصمت، وتعرف بأّنّنا وضعْنا في آذاننا قطنا ، وأغلقنا أفواهنا بكمٍّ من اللّحوم المشوية والحلوى، واستسلمنا لمتابعة أرقام اليانصيب ، وأتعبْنا أنفسنا بالبحث عن مصطلحات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، سرعان ما تموت أمام الوافد المستورد الآخر. هكذا أضعنا شخصيّتنا، فضعنا .ولم نكتف بذلك بل عادينا الحقيقةَ، وكذبنا على أنفسنا ، فخسرنا أنفسنا والآخرين الصادقين معنا.
المشهد الثقافي مأزوم بنا، محروق من صمتنا، ومكسور الخاطر من تصرّفاتنا، وكأنّ الواقعَ ليس لنا، ولسنا منه. وكأنّنا استسلمنا لما اُتُّهِمْنا به، فهل نحن خارجُ الحسابات؟ وهل نحن خارجُ المعركة؟ وهل نحن خارج رداء الحقيقة التي تصفعُنا بنظراتها وعتابها المرّ؟ وهل عدمْنا الوسيلة لسبر نفوسنا ، ومصارحتها؟ وهل افتقدنا الإحساس فكشفنا عن عوراتها؟؟
تعليقات
إرسال تعليق