غريب رغم أنفه / لطفي الستي
القصة القصيرة
((غريب رغم أنفه ))
لطفي الستي/ تونس
زج به في إحدى الطائرات لترحيله بعد أن قضى مدة طويلة في أحد السجون بتهمة حرق الصابة بإحدى المزارع ...
عشرون سنة تلتها عشر ثم خمس لسوء السلوك و الانحراف الأخلاقي ...
لم تكن هذه وجهته ولم يكن ذاك حلمه عندما " حرق " مع بقية " الحراقين " ومنى النفس برغد العيش ...منى النفس بالعودة لقريته بالسيارة و بناء العمارة ومرافقة إحدى شقروات الغرب التي ارتبط بها لتنسيه الغربة و البعاد ...لكن ظلمة السجون و قساوة القضبان وسوء المعاملة قتلت فيه كل حلم ووأدت فيه كل أمل ...
وصل إلى قريته فلم يعرف أحدا و لم يعرفه أحد ...ما تزال الغربة تلاحقه حتى في وطنه و على أرضه ...أغلب من يعرفهم ماتوا أو رحلوا ...حتى البيت الذي ولد فيه تحول إلى مطعم شعبي محت روائح مأكولاته كل آثار الطفولة منه ...
علم من البعض أن والدته توفيت منذ مدة و أن والده هده فراقها فباع البيت و هام على وجهه إلى أن وجد ذات يوم جثة هامدة في أحد المزارع ...
قصد مقبرة القرية متحسسا القبور ...باحثا عن قبر والده و والدته لكنه لم يعثر على أثر و لا على علامة ...كل القبور متشابهة ...أكوام من التراب والطين و حجارة فوقها لا تحمل اسما و لا تاريخا ...جاب المقبرة عساه يسمع همسا ...عسى يقوده قلبه و إحساسه لزاوية ...لقبر فيتوقف عنده و يقرأ فاتحة الكتاب و يحكي له معاناته ...
لكن الصمت لفه ...وشعر باختناق وقد اكفهر وجه السماء و بدأت قطرات المطر ترتطم بجسده و روحه الباردة ...شعر أن سكان القبور يدعونه للرحيل ... للبقاء...
و أن عيونهم تتفحصه بدقة ...تنهشه نهشا ...وخيل إليه أن قبورهم تتسع تارة و تضيق تارة أخرى و أن لحودهم ترتعش تكاد تستسلم لهبات ريح بدأت تعصف بأغصان الأشجار و الأوراق ...جموع عصافير تحلق فوقه مفزوعة مروعة تسعى لأقرب مأوى ...قطرات المطر تنهال عليه من كل صوب و سيول الماء تتكون بسرعة من حوله لتغرق قدماه في الوحل ...
يرفع يديه ويقرأ الفاتحة بصوت عال ثم ينصرف متثاقلا ...متباطئا ...مهزوزا وقد شعر أن غربته لم تنته
و أن حبسه دائم ...
ومن يومها لم يره أحد في القرية ....
بقلمي: لطفي الستي/ تونس
23/05/2023
تعليقات
إرسال تعليق