الصرخة / جوزيف شماس
الصرخة
منذ أن غادرت رحمَ أمِّها الدافئ. أطلقت صرختَها الأولى تستقبلُ بها الحياةَ الجديدةَ. منذ تلكَ الصرخَةِ التي ما تزالُ جاثمةً على صدرِها رغمَ مرورِ أكثرِ من رُبعِ قرنٍ على زواجها. وها هي جالسةٌ على عتباتِ خريفِ العُمرِ تُودّعُ وريقاتِهِ الموشومةِ بأثرِ تلكَ الصرخةِ, ورغمَ محاولاتها الدائمةِ لإزالتها من بين الضلوعِ, لكنْ دونَ جدوى, لا بلْ تصلّبتْ, وعلا صوتها مع قسوةِ الظروفِ وتراكُمِها.
في هذه اللّيلةِ الفاصلةِ من عمرها والقمرُ ما يزالُ مُتَعثراً في الظهورِ, ونجومُ السماءِ قد اختفتْ خلفَ ستارِ السحابِ.
جلسَتْ تتذكّرُ ليلةَ زفافها, والحزنُ يملأُ عينيها, وهي تراقبُ قدومََ الليّلِ القاهرِ؛ المبدّدِ لضوءَ النهارِ.. غيرَ مُبالٍ ببكاءِ طفلةٍ شريدةٍ, أو اغتصابِ فتاةٍ يافعةٍ. إنّهُ ذلكَ الليلُ الساترُ لآلامِ الشعوبِ ولتشريد شعبٍ كاملٍ عن ترابِ وطنهِ.
نظرتْ بعيونٍ دامعةٍ إلى زوجها, لعلّهُ يُسمعُها أطرافَ كلماتٍ حلوةٍ. فوجدتهُ منهمكاً في تصفّحِ الجرائدِ المختلفةِ العناوينِ, المتشابهةِ المضامينِ والترّهاتِ. وبين الفينةِ والأخرى كانَ يسترقُ نظرةً إلى بعضِ ما يقدِّمُهُ التلفازُ, فيشتمُ تارةً ويلعنُ تارةً أخرى. وفي أغلبِ الأحيانِ, كان يحاورُ الرسومَ المتحرّكّةِ أمامهُ.. ثمّ ينتفضَُ بعدها غاضباً.. يَشعِلَ لفافةَ تبغٍ.. يبحرََ على أمواجِ دخانها إلى كهوفِ أمنياتهِ المنسيّة.
لحظاتٌ تغمُرها.. تسرحُ بعيداً على مروجِ ذاكرتها.. تلمحُ صوراً ضبابيّةً من أيامِ طفولتها, وعن محاولاتها الأولى في تلمُّسِ الأشياءِ الدائرةِ في فَلكِ معرفتها منذ ذاك الزمان. وما تزالُ تتذكَّرُ صرخاتِ والديها وهما يُؤنّبانها على أَيّةِ حركةٍ أو لمسةٍ أو أيّ ِسؤالٍ بريءٍ قد يخطرُ على بالها, وأكثرَ ما حزَّ في نفسها يومَ وَأدَتْ فرحَها في أوّلِ عيدٍ كانت تمنّيِ نفسها أنْ تنعمََ بخيراتهِ وبهجتهِ. يومها كانتْ طفلةً وكان عالمُها مقتصراً على الّلعبِ والفرحِ.
في ذاك العيدِ؛ حين بدأتْ تلعبُ مع إخوتها, وتبارزهم بعنفوانها وذكائِها. فجأة: سمعَت صرخاتٍ حادّةً دوَّتْ في أذنيها, مقرونةً بالاستنكارِ والزَّجرِ, كما أنَّها لم ولن تنسى يوم امتلأَ البيتُ صُراخاً صامتاً, نابعاً من عيونِ والديها. صراخٌ أحاطَها بسياجٍ ساترٍ لمخزونِ عواطفِها واخضرارِ روحها؛ حيث أبلغتها أمّها : بأنّها كبرتْ واكتملتْ أنوثتها, ومالَ جسدُها نحو النُّضْجِ ويجب أن تحجبَ عن الأنظارِ في انتظارِ ليلةِ زفافِها...
يذوبُ زمنٌ آخرٌ ويتبخَرُ في بحورِ عينيها. وينفجرُ صراخٌ قويٌّ في ذاتها , فتهبُّ متّجهةً نحوَ الشرفةِ, لعلّها تلمحُ بصيصَ أَملٍ يملأُ قلبها, وما كان ذاك كما تشتهي, بل سمعتْ ضجيجاً صاخباً ناتجاً عن تهشُّمِ قطارِ العدالةِ المنشودَةِ. فانطفأتْ أنوارُ آمالها وبُهِتَ بريقُ ذكرياتِها, وغرقتْ روحها في جوف العَدَم. .أحسَّتْ كأنّها واقفةٌ في محطَّةٍ مقفرّةٍ, تجولُ في فضائِها خفافيشُ اللّيلِ وأسراب صقور الظَّلامِ. دمعت عيناها وجاشَتْ نفسُها على ضياعِ سنيِّ عمرِها في سراديبِ الجهلِ .. مسحتْ دموعها براحتيّها .. أَسرعتْ إلى غرفتِها .. أغلقتْ بابها .. حضنَتْ أَحلامَ صباها وذكرياتِ طفولَتِها وخبّأتها بين الضلوعِ...
أما هو فبقِيَّ جالساً على الأريكةِ, يداعبُ لفافةَ التبغِ التائهةِ بين أصابعهِ, يرمقُها ويتلذُّّذ باحتراقها المُعبَّرُ عن ضعفهِ وقهرهِ. ففاضَ إحساسهُ بالوحدةِ والخوفِ .. أطفأ التلفازََ .. رمى الصّحفَ جانباً.. أهملَ لفافةَ التبغِ .. أطبقَ أجفانهُ .. خطا بعيداً عن جنانِ أحلامهِ .. اتكأ على حوافِ السنينِ الباقيةِ من عُمُرِهِ منتظراً لحظةَ الخلاصِ من مشقَّةِ العيشِ في بيئةٍ مليئةٍ بمستنقعاتٍ موحلةٍ واسعةِ المدى.
مع ساعات الليل الطويلِ.. أشتدَّ أرقُها.. ذبُلتْ جفونُها.. تسلَّلََ البردُ إلى مفاصِلِها.. مالت أمنياتُها نحو الزوالِ.. حاوَلَت الصّراخ.. لم تفلحْ.. عُقدَ لسانُها ..فقدت القدرة على النُطْق..احتضنَتْ قلمها بأناملَ خجولةٍ, وبدأتْ تكتبُ..وتكتبُ...
تمضي سنواتٌ من عُمُرها, وهي أسيرةُ ذاتها في غُرفَتها, تكتبُ باستمرارٍ لأحفادها ولكلِّ أطفالِ العالمِ؛ عن الفرحِ وحُبِّ الحياةِ والطبيعةِ...
أَوقفَ السّيارةَ.. ترجَّلَ مسرعاً.. صعدَ درجَ البناءِ دونَ أنْ يشعُرَ بظلمةِ المكانِ .. فتحَ البابَ .. ناداها بفرحٍ:
كنتُ على يقينٍ؛ أنّكِ الفائزةَ الأولى لقصصِ الأطفال. لكنَّ الخيبةَ سرقتْ فرحَهُ, وَلَوَتْ جناحي بِشارتَهُ, حين وجدها ممدِّدةً على فراشها, وعطرُ جسدِها الباردِ قد عبقٌ في أمواجِ أثيرِ غرفتها.
جلسَ بجانبها على السرير .. قبّلَ جبينَها .. أجهشَ بالبكاءِ .. وضعَ وسامَ الفوزِ على صدرها .. ضمّها بحنوٍّ وخشوعٍ .. وهمسَ طالباً الصفحَ والغفران.
انتهت
جوزيف شماس
تعليقات
إرسال تعليق