منوعات /محمود محمد أسد
منوعات
الأحد 24-6 - 2012
محمود محمد أسد
ليس الأدب نصّا فحسبُ، وليس الأدب شخصاً يكتب ، وانتهى كلّ شيء، وليس الأدب والإبداع علاقاتٍ مصلحيّةً سرعان ما تطفو على الوجه، وليس الأدبُ ادّعاءً وتكتيكا للظهور بمظاهر شكليّة لا علاقة لها ولا فيها للإبداع والنتاج الذي عليه تقع مهمّةُ الكشف والمكاشفة ، فعندها لا تُغني دعوةُ ريادة أو ترجمة ، أو محلّية أو شهادة عليا تجرّ الأقاويل، أو إعداد مرتزقة للكتابة أو الإشادة بالمنتديات وهم لا يحسنون القراءة، وسرعان ما يغيبون عن المشهد الثقافي اسما وشخصا. والتوافق بين النصّ المبدع والشخصيّة المبدعة ليس بالأمر السهل، وليس نيلُه والوصول إليه بطول بطاقات التعريف والمناصب والمواقع التي لا تختلف عن أيّة وظيفة إداريّة، لا يبقى منها شيء بعد الإزاحة والتقاعد. الأبقى للإبداع الحقّ المتوافق مع التوازن الشخصي والمعرفي والسلوكي في مجال التعامل مع الثقافة. وتدعيم الذات في المشهد الإبداعي لا يأتي من الفقاعات والتمثيليّات التي سرعان ما تُطْفأُ أنوارُها ،ويعود كلّ ممثّل إلى طبيعته.
قد ظنّ الكثيرون من المثقّفين والأدباء سابقا أنّ الكتابةَ لعبٌ ولهوٌ وتكتيكٌ.ظنّوا أنّها مركبٌ سهلٌ ينقلك حيث تريد رغم الأنواء وعاتيات الظروف. ظنّوا الأد بَ مائدةً جاهزة لذيذةَ المذاقِ، ويسهلُ جلبُها وتقديمها،هذا زعمُهم الذي بُني على ما يُسمّى بخيانة النفسِ والآخرين. لكنّهم لم يلتفتوا حقيقةً إلى جوهر الكتابة وعمقِ التجربة ومدى بقائها واستمرارها، فلم تنفعْهم أساليبُهم ولا ألقابُهم ولا بطاقاتُ تعريفهم، هذه الأساليب والممارسات التي مضَوا بها حينا من الدّهر واستهلكتْ ضمائرَهم ونفوسَهم التي تضخّمت ونُفِختْ لدرجة ما عادوا يحتملون أحدا لا يشير إليهم ، أو يتغاضى عن بعض ادّعاءاتهم وزعمهم. هؤلاء ذابوا كقطعةِ الجليد مع أوّل ارتفاع للحرارة وسطوع لشمس الحقيقة.
لم يبحثوا جادّين عن جدوى الكتابة، ولم يتوقّفوا عند آلية التفاعل، وكيفيّة الثبات وحسن الدّراسة وبُعد النظر، أخذتْهم فرحةُ التصفيق والجلوسِ في الصّفّ الأوّل ، وإن حضروا متأخّرين، وسلبتْ عقولَهم صورتُهم في الصحف والمجلات، شفانا الله من كلّ مرض نفسيّ انتابنا، ويُخيّل لي الآن أنّ هناك من يرسل برقيّات الاستنكار والمقاطعة لي. لأنّني ألامس الحقيقة التي استفحلت وأخذت حيّزا مكشوفا ، وصارت سلوكا مصانا عند بعضهم، وأنتم أدرى بدلالة "مصان" أغرتْهم الكلماتُ والمجاملات والصّمت الذي يعرّيهم بعد تركهم أماكنَهم ووظائفهم. وبقائهم دون كرسيّ أو موقع حيث لا ينفع إلاّ الزّرع والغرس الطّيّبُ .
هذه الآفات والأمراض ُالتي تجاهلَها المجتمعُ، ومن يعنيهم الأمرُ مشاهدةً وحضورا وممارسة ، وهم يدركون الحقيقة في داخلهم، فتركوا المرضى في غيّهم وغرقهم يغطسون. بعد هذا تشعر بالفراغ والضّيق، لأنّك لم تجدْ من يكتبُ عنك، ولم يبقَ من يشير إليك إلاّ بما زرعْتَه وأقدمتَ عليه.
التجريبُ أمرٌ ضروريٌّ في مجالات الحياة والثقافة والإبداع، وهو سمةُ التطوّر، ولكنّك لم تُميّز بين التجريب والتخريب ، لم تُدركْ أبعاد التجريب الواعي الذي يعتمد على الأسس والبحث ، ويستند على الخبرة والدّراية، وقدغابت عنكَ نتائجُ التخريب الذي كان وراءه فكرٌ عبثيّ ضالّ، قد وُجِّه ووظِّفَ للضّياع والتضييع، وانظروا حالنا يا أخوتي؛ إلى أين وصل بنا الأمرُ في المشهد الثقافي الذي يعاني من تشوّهاتنا لأنّه من نتاجنا وصنعنا. والفرق كبير بين البحث والكمْشِ، البحثُ الذي يقوم على النبشِ والدراسة بعمق، واكتشافِ الغامض والمجهول، وإخراجِ المطمور والمدفون من أقبية المكتبات ومستودعات دور الكتب لتقديمه للمشهد الثقافي مادة للدراسة والتوثيق والتحليل، وبين ما كثرَ الآن من لطش وكمشٍ بفضل التقنيّات الحديثة التي لم تكنْ بالأصل لأولئك المتساهلين المتواطئين مع نفوسهم المريضة. هؤلاء لم تسمعْ بكتاباتهم أو محاضراتهم أو مناقشاتهم ، شبعوا وأصيبوا بالتخمة والبشم من موائد الانترنيت الذي صنع منهم أذكياء نابهين بالفلك والجيولوجيا والطيران والسينما العالمية في كلّ أصقاع المعمورة، وسيلتُهم كشفٌ وقصّ ولزقٌ وإرسال ومتابعة وصمت على ما نشروه، ولا أظنّ إنسانا مبدعا تعب على مادته، يسعى لطمسها وإخفائها إلا خوفا وطمعا بإرسالها لمجلة ثانية وبعنوان آخر. والحَبَل الحقيقي لا تخبِّئه الحامل لأنّها تزهو بخصوبتها
لذلك الفرق كبير بين اكتشاف الحقيقة والبحث عنها، والحوار الجادّ مع الآخرين من أجلها، والجري وراءها لتقديمها ناضجة حيّة تضخّ المعرفةَ والفكر والتساؤل ، وبين انكشاف الحال والجهل مع أوّل سؤال أو تساؤل موجّه، ويقيني أنّهم لن يجيبوا، ولن يُعلّقوا، ولن يضيفوا لأنّهم لا يملكون أكثر ممّا أقدموا عليه، وفاقد الشيء لا يُعطيه.
لا أعرف تفسيرا لما يجري من منزلقات وحفر وتلميع وطمس للحقائق سوى الاستهتار بالكلمة وموقعها ودورها، وأضيف إلى ذلك الاستهتار بالإنسان واعتباره لا يفقه، ولا يميّزُ، وهنا مكمن الدّاء ومنبتُه. فالفوارق تزداد سعة، وتتمادى في تجاوزاتها منطقَ العقلِ . فكيف ترى حالَ ذاك الذي لمّع نفسهُ، وأفاض عليها الكثير من التزييف الذي أمدّه ببعض اللقاءات مع الجاهلين فكَّ الحروف، فلجؤوا إلى التعالي والابتعاد والغموض والتحزّبِ والأيدلوجيّات، وجعلوا منها سياجا منيعا حاميا. وجعلوا منها تجارة رائجة، فانطلقوا إلى الطريق المحرق لكلّ المواهب والملَكات، اندفعوا مكشّرين ومصادرين ولاغين كلَّ من كشفَ بموهبته وعقله المتفتّح ووعيه الموضوعي ساديَّتهم ونرجسيّتهم.
تسألون أنفسكم، وأتساءل معكم عن سرّ انكفاء وانحسار المشهد الثقافي، تستغربون الفقر بالحضور والموادّ والحوار، وهذا حقّ ، والأنسب أن نسأل أنفسنا لماذا حدث ما يحدث؟ والجواب ليس بخافٍ على ذي بصر وبصيرة. هناك تغرّب واغتراب، وهناك انطواء وانكفاء ، وكلّ ذلك يشكّل أصل البلاء والمرض ، كثيرا ما توقّفْتُ عند هذه الثنائيّات التي من المفروض أن تشكّل علاقة التواشج ، وليس علاقة تنافر. كيف يُمكِنني أن أوافق بين أديب يرفض كلّ شيء لا يتناسب مع انتمائه, وبين آخر يقبل كلّ شيء، وفد إليه دون مراعاة أو دراسة ما دام يتناسب مع قناعاته فحسب، أليس هذا قتلا للمعايير الحقيقيّة؟ وكيف تقارب ، وتقرِّبُ بين الأدباء الذين استسلموا لتحزّبهم، وجعلوه منارتَهم وغايتهم، وهذا الأمرعلى حساب الفنّ والإبداع والموهبة. وبين أدباء أدركوا دورَهم، وآمنوا برسالة الكلمة شكلا ومضمونا ونبلا، ولكنّهم انسحبوا من السّاحة متسلّحين بادّعاءات ما أنزل الله بها من سلطان.تركوا السّاحة واستسلموا لوساوسهم وهمومهم أو أحلامهم ، أو طلبا لسلامتهم الذهنيّة والأخلاقية. عندها ستسألني من بقي في السّاحة ؟ وبدوري أدعوك لإجراء جرد حقيقيّ دقيق، وبعد ذلك ابحث في أسئلة أخرى.
الحرف العربي في أزمة ، والمثقّف العربي في قاع الهزيمة والاستسلام.وهذه الأزمات والانكسارات السياسيّة والاجتماعيّة أوقعته في الكثير من الحفر، ووضعت بعضهم على شفا جرف هارٍ من الضّياع الذي سلكه ونهجه مع سابق الإصرار، وهو يعلم نتائج الفاجعة الثقافيّة.
فرق كبيرٌ بين أديب مثقّفٍ مهتمٍّ ومتابع ، وبين آخر، ولن أقول مثقّفا، يسيربحثا عن غنيمة أو بقايا تركة، فهناك مضحٍّ بسلامته وأولاده ومستقبله وهناك متبرّعٌ بكرامته ورجولته وعرضه .
يا سادة الكلمة ، ويا صاعدي المنابر، ويا سدنة الحرف ، حاسبوا أنفسكم، واقتربوا من ذاتكم قبل أفول المراحل واختزال المسافات، ابحثوا بصدق ، ولا تفكّروا بأدوات أخرى ، تضعكم في نفس المتاهات . فلا سبيلَ لكلمة عرجاء، ولا سبيل يُرتَجى من شخص رضي أن يكونَ الأصمّ والأبكم والأعمى. وهو يدرك بقناعة نفسِه أنّه خائنٌ لذاته قبل أن يخون الآخرين.
الشمس لا يحجبُها غربال، والثلج يُذيبه وهجُ الشمس ، والحقيقة تفضح عريَ المتلبّسين والخادعين. فالأدب أبلغ من لغة التصفيق والتّرويج والتكتيك والمداهنة والرّياء. والأدبُ والإبداع أشدُّ تأثيرا من الدواء المجلوب على أنّه دواءٌ ، فإذا به ماء وصباغ ومنكّهات. جاءت أيّام عرّت وكشفت سوءاتِ من سبقونا وألاعيبَهم. وسوف تأتي أيّامٌ تؤدّي الدور نفسَه وبقسوة لأنّ التقنيّات ما عادت تستر ، وتأتيك بالأخبار وأنت في فراشك.
آمل أن أقدِرَ بعد هذا الحفاظَ على ما تبقّّى لي من الأصدقاء، وأتمنّى أن يُداهمَني أحدُهم ويقبلَ صراحتي ومصادقتي على هذا الأساس من الوضوح.
تعليقات
إرسال تعليق