بين حمأة الأسئلة وخصوبة الجواب/محمود أسد

 محمود محمد أسد

  بين حمأة الأسئلة وخصوبة الجواب     

منذ طفولتي استهوتني البرامج التي تعتمد على الأسئلة، انطلاقا من مسابقات الصفّ التي كانت سائدة، ومرورا ببرامج الإذاعة ، أنت تسأل ونحن نجيب، والسّياسة بين السائل والمجيب، ومن القائل وما المناسبة؟ ووقوفا عند برامج المسابقات في التلفزيون مع المذيع مهران يوسف وغيره. وفي مراحل متقدمة كانت ابنتي تقول لي :" اسأل قبل أن تسأل " وبدوري كنت أقول لطلابي : فهمُ السّؤال نصف الجواب. ومن الأسئلة تنطلق المعرفة ، وهذا ما ذكرني بالمرحلة الثانوية ، وفي كتاب الأدب وتحديدا موضوع " الأدب الملتزم" حيث توقّفتُ وحفظتُ متأمّلا جدوى الأسئلة التي أُملِيت علينا وتوِّجت : المطلوب من الكاتب والأديب أن يسأل نفسَه قبل الشّروع بالكتابة أن يسأل نفسه : ماذا أكتب؟ ولمن أكتب ؟  وكيف أكتب؟ وهذه الأسئلة راجت ، وروِّج لها كثيرا، وكثُرُ الحديث عنها، وعن جدواها ومغزاها، وأعتقد أنّها أوصلتْني إلى سؤال جاء متأخّرا وبعد طول تجربة ومتابعة: وما ذا تبقّى من هذه الأسئلة؟ وهل الواقع الثقافيّ الراهن محصّلة لهذه الأسئلة؟

 وكثيرا ما استوقفتْني أيضا عنواناتُ كتب ومقالات، لها دلالتُها، وتحمل في  طيّها وبين ظهرانيها بعدا فكريّا ومعرفيّا عميقا. " ماذا تقرأ ؟  ولمن تقرأ؟  وكيف تقرأ؟ " 

كنت أرى نفسي أمام أسئلة ساخنة. وأمام إشارات توحي بالكثير ممّا يؤسَّسَ على العقلُ، تنقلكَ إلى آليّة التكوين الحضاري الذي نتوخّاه ونسعى إليه، ونتغنّى به ، تحمله هذه القراءاتُ الموَجَّهةُ  والمتوجِّهة. أسئلة لا تتركُنا على خطّ الموتِ إلاّ إذا أردناه..ولا تريدنا أن نبقى على هامش الحياة ،  ولا تدَعنا في أتون التخلّف إلا إذا شئنا السُّبات المعرفيّ.

 إنّ القراءة وجود وكينونة واكتشاف ، والتنزيل العزيز بدأ  ب "اقرأ " ومع هذا أوصلتْني هذه الأسئلةُ الساخنة إلى أسئلة أشدَّ التهابا . أوجدتْها  حُمّى الواقع السّقيم : لماذا لم نتطوّرْ ما دمنا طرحْنا هذه الأسئلة ؟؛ لماذا نقاسي من داء الجهل ومن أميّة القراءة والكتابة ؟ و لماذا تبرز عندنا أميّةُ المتعلّمين والمتخصّصين ؟؛  

إذاً ما ذا أخذنا من هذه الأسئلة ؟ لطالما تتفاقم الأزمات وتعمّ كلّ الجهات.  سؤالً لمن لا يقرأ ، ولا يحبُّ وجعَ الرأس من القراءة ، وقد أوجدَ المبرّرات قبل حدوث الحدث، وقبل وقوع الأمر. سيقول لنا ودون حرج : لا وقتَ لي ، لا كهرباء في بيتي، لا أجد الراحة في البيت ، أصل إلى بيتي طينة يستقوي عليها النوم العميق ، وإذا أردتُ ما تريده فلن تتركني أمّ العيال والأولاد. 

ودارت الأيام ، وكأنّنا تجاوزنا أسئلة الكتابة، وأسئلة القراءة ..وكأنّنا نلْنا مآربنا، وحقّقْنا الغاياتِ المرجوّةَ منها، وكأنّها قد وضعتْنا على خير صراط ، وخير مكانة . فانتابتْنا حمّى  أسئلة أخرى : بماذا تفكّر ؟ وأين وصلَ بك تفكيرُك ؟  وما رأيُكَ بالفكرة الفلانيّة؟؛ لأيّ من المفكّرين ترتاح ؟

أصحو على وقع هذه الأسئلة  الشامخة  كبرياء ومنعة. أجد نفسي عاجزا عن الإدلاءِ ،لأنّني من أربعة عقود  بل قرون ، وربّما أكثر، وبطبيعة الحال أترك تعيين الزمن لمن يشاء ، فلا خلاف حول الوقت إلا في المباريات الرياضيّة لفريق دون آخر. المهمّ  توقَّّّف التفكيرُ عندي، وهذا حصل قبل ولادتي ، ولأنه وُجدَ مَن يصادره، ويسحب بساطَه من تحتنا. وليس من رأسنا. هذه الأسئلة الأخيرةُ غيّرتْ مسارَ تفكيري، عندما كنتُ أفكِّر بسلامتي وسلامة أسرتي وأحبابي. وهي التي سرقتْ لوقت قصير تفكيري بالمعيشة التي تضيِّقُ خناقها علينا، وراح تفكيري بعيدا يُحصي الأرقام والأعداد ، ويجمع ويطرح ، ولكنّه لا يملك القدرة على الضّرب،ولمّا فكّر بالتقسيم وجد من ناب عنه بهذا الدّور ، فماذا تبقّى له من التفكير بعد كلّ هذا ؟ 

لذلك سوف أجيبُ ودون تردُّدٍ  : ما زلتُ أفكّرُ بما انتابَ فكرنا  من شلل، وبما انتاب أقلامنا من جمود وانحراف، وبما انتابَ قراءتنا من سوء التوجُّه. أتريد بعد هذا الجواب؟؛ أتريد منّي الكرمَ أم الناطور؟ أتريد الكتابَ أم مضمون الكتاب؟ أسألك : أين جدوى  أسئلة الكتابة ؟ وأين جدوى أسئلة القراءة ؟ وأين جدوى اسئلة التفكير ؟ يبدو أنّنا لجأنا للسهل قولُه، وللسهلِ طرحُه في ظنّنا. فهل كانت الأسئلة ستارا ، وجسرا للعبور إلى نُزهات من الوهم ، وإلى موائد من الحلم والسّراب؟  أغابت العقليّة المؤسّسةُ للمعرفة أ م غُيِّبتْ السُّبلُ الكفيلة بالوصول.؟ هل لجأنا بأسئلتنا لما هو أكبر منّا ؟ هل اعتقدنا الأسئلة كافية وشافية ووافية؟   

يا صاحبي ؛ دلّني على برّ الأمان. يا صاحبي؛ أرجوك ألاّ تحسبَني بالحسبان. أبحث عن مرفأ للأمانِ، أفتِش عن برٍّ

يقيني من رجس الشيطان، أبحث عن مسافة ومكان للحبّ، يُبعدني عن شرور أخي الإنسان ، لم يعد للتفكير مكانٌ في زمن البهتان.. لقد حار بنا الزّمان والمكانُ والإنسان ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء