خيط الدم / محمد خيري رشيد

 خيط الدم:

********

بعد ليلة احتواها الضجر

تعززه الكآبة الممتدةبامتداد تاريخه المجهول..

استيقظ صباح هذا اليوم كطائر جريح

عشِقهُ الحزنُ وسكنتهُ نيران الفقد..

نهض بعد لأيٍ ،

وكأنّ النار تسكن جانبيه،

غسل وجهه .

جلس متثائبا لتناول الافطار

لكن شبح أبيه ووجه امّه -ككلّ يوم- اوقدا في روحه صرخات الدم،

وهاجت في نفسه شرارات الحسرة، ولواعج الامنيات .

تملكته  رغبة بالخروج.

ترك الافطار كما هو،

غير ملابسه،

وغادر الدار باحثا عن مكان يُرفّه فيه عن نفسه.

قادته خطاه إلى حديقة  وسط المدينة.

لم يكن في الحديقة غير عدد ضئيل جداً من المرتادين فالوقت لازال مبكراً والناس تؤْثر لمّ الشمل في أيام نهاية الأسبوع..  

جلس على أحد المقاعد المنتشرة على جانبي الطريق الذي يقسم الحديقة الى نصفين..

حاول أن يبعد السأم الذي انتابه منذ استيقاظه.

أخذ نفسا طويلاً..

كرّر ذلك مرات عديدة

ثم راح يبحث عن إحدى أغاني فيروز من خلال هاتفه الجوال..

كان صوت فيروز يسحره وينقله إلى عوالم أخرى..

أحس  بتحسن في مزاجه فراح يتفرس في وجوه القلة من الناس الجالسين بالقرب منه..

لفت نظره رجل كبير في الستين من عمره..كان أنيقاً جميل المحيا يبدو عليه الوقار والهدوء.

عاد ليتصفح الهاتف فاستوقفه  مقال عن الأب تُذيّله صورة لرجل يحتضن أطفاله في فرح غامر..

يا إلهي..

رفقاً بقلبٍ فتَّته الزمان 

فصار مرتعاً لعزاءٍ أبدي

لم يرَ وجه أبيه منذ صرخته الاولى  ..

حيث توفي والده .

يجهل النطق بكلمة ابي ،

كان ذلك رمحاً غائراًفي صدره كطفلٍ..

ولازال وهو في الخامسة والعشرين من العمر .

ذاكرته خالية تماماً من أية معلومة عن أبيه.. سوى أنه كان يسمع من جدته أنه كان ضابطاً في الجيش وتوفي بقذيفة معادية في إحدى المعارك.. 

حتى عندما بلغ السادسة من عمره لم تشأ والدته ان تذكُره أمامه لعدم تحملها رؤية الانكسار على وجهه الغض .

تذكر  وفاة أمه بعد دخوله الابتدائية بسنة واحدة،حيث تولت رعايته  جدته، البالغة خمسة وستون عاما..

كانت تحرمُ نفسَها من كل ما هو طيّب لأجله.. 

أيقظه من هذه التداعيات صوت الهاتف وهو يحمل مكالمة من صديق..

التفت ناحية الرجل الستيني فوجده يهمّ بالنهوض بقامته الفارعة ومشيته المنتظمة رغم كبر سنه..مرّ من امامه فوجدنفسه بلا إرادة ينهض من مقعده كأن دافعا يقوده إلى القاء التحية على الرجل..لكنه أحجم. فهو لايعرفه

أحس بارتباك عجيب وهو يواجه هذا الرجل ...

وكأن الرجل لاحظ ذلك فبادر بالسلام عليه مع ابتسامة رائعة لم يرَ شبيها لها. .تهلل وجهه واتجه ناحيته وسلم عليه بحرارة لم يشعر بها تجاه أحد غيره.

كأن نوراً يسكن وجه الرجل..

قال : 

-هل اعرفك؟

ارتعش الشاب:

_ لا اظن أستاذ

-كأني اعرفك

- ربما 

- مااسمك

-صفوان عبد العزيز التلمسان 

 امتقع وجه الرجل..وبدأ عليه كانه يفكك لغزا مركباّ ويردد بصوت يكاد لايُسمع.

عبدالعزيز التلمسان...

 أبوصفوان ؟

ثم عاد يسأله كم عمرك ؟

-خمسة وعشرون عاما !!

-هل كان ضابطاً؟

-من؟

- والدك؟

-نعم كان ضابطاً. 

سحبه من يده قائلا:

-تعال لنجلس قليلاً.


جلس الرجل.جلس الشاب

طوق الرجل رقبة الشاب بيده

- أنت صفوان؟

تملكه العجب وانعقد لسانه ياترى من هذا وكيف عرفني؟

استسلم وهو يحس أن شيئاً جللاً سيحدث لكنه ،اومأ برأسه موافقاً.

_تشبه والدك كثيراً.

- أتعرفه؟!

لم يدَعه في حيرته وقال:

توفي والدك هنا ،وأشار إلى فخذه الأيمن.

أصيب الشاب بالذهول.

وهو يشعر لأول مرة في حياته أنه سيعرف شيئاً عن أبيه

كانت يد الرجل الممدودة إلى رقبة الشاب 

لا تشبه السيف

ولاتشبه الماء

هي مزيج بين الفرح والحزن

مزيج بين الشك واليقين

يد تمتد لتنتشله من قسوة المجهول

لتوصل الطريق بين الدم والدم..

وبدأ الرجل يروي له كل شيء،عن ابيه 

كل شيء!!.


محمد خيري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء