جع الشعر في بيانه / محمود محمد أسد

جع الشّعر في بيانه
حلب
فضاءات الجماهير
الاثنين12-9-2011
محمود محمد أسد
الشعرُ منبتُ الحبِّ و الخير و الجمال، نسغ السموِّ إلى العالم الأرحب والأصفى هو مركبٌ لجزر العشق و الدهشةِ اللافتة الساحرة وهو سفينة تبحرُ بنا إلى بحيرات الإبداعِ، ويرسو بنا على مرافئ الصفاء والجمال. هو قادرٌ أن يفعل فعلَهُ العجيبَ بنا، يملك مفاتيح الدهشة، و يثيرُ لواعج النفس … يقتحم المجهول منها، يقوى على همومنا، يشاغبُ برشاقةٍ، و يوقِع بين الشعراء وبين الآخرين … …
هو عصيٌّ حينا فيمتنع ويأبى، وطيّعٌ حيناً آخر تراه بين يديك كحمامة وديعةٍ، أو سحابة ظليلة ماطرة. يُطِلُّ عليك رتيباً لدرجة السأم حيناً، وينبعث ناشزاً شقيّاً في أحيان أخرى. إنَّهُ طقسٌ متقلِّبٌ، وكائنٌ غيرُ مستقرّ، هو رؤيةٌ وصورةٌ لافتة، ومضامين موحية، تخصب في الذاكرة والنفس فتعطيك إبداعاً عصيّاً، يصْعُبُ إمساكُه أو اللحاق به. هو فتاةٌ متقلبةُ الأهواء، يصعبُ علينا حلُّ لغزها، تلوِّحُ إليك بنظراتها ومفاتنها، فتأسُرُ ألبابَكَ ابتسامتُها وغَنجُها تهمس لك بطرف لحظها، فسرعان ما تجدُ نفسك أسيرَ غوايتها فتحاول مجاراتها ولا تستطيع إدراكها، فتقع أسيرَ حسنِها وهواها . هو معك وليس معك … يتراءى من بين شفاهك فتسكبه شهداً عذباً. يقاطعك في خطاكَ وشهقاتِك وتراه ضالاًّ شارداً كغزالٍ برِّيِّ في صحراءَ موحشة وحيناً تراه فتى شقيّاً مشاغباً يصعب عليك فهمُ سلوكِهِ وإمساكُهُ والأخذُ به … هو كلُّ هذا .. هو كيمياء الإبداع تُشكِّلُ بين الحروف والنقاط والكلمات وبين الكلمة و شقيقتها، وبين الصورة ودلالتها وألوانها. هو كيمياء الروحِ الشفّافة الخفيَّة التي تبعث النهوض في الجسد الراقد، وهو مركب يحمل ما لذَّ وطابَ من توابل الحياة وبهاراتها، يجلب لك سحرَ البيان ودهشة التعبير والتشكيل، ويرسو بك حيثُ الأمانُ والحبُّ والدواء. أمواج البحر تتكسَّرُ أمام طاقاته واندفاعه. وأسماك القرش تُروّض أمام نظراته ورؤاه فتنزع أسنانَها وتقترب منه عن رضا وقناعة لذلك يصعب على الشاعر والمتابع الحصيفِ أن يمسِك بخيوطِهِ، وأن يُلِمَّ بما يخفيه، فلا يقدر على إعادة صياغته، هو فوق التقليد وفوق التقعُّر اللغوي والتكلّف الثقيل. الشّعر مجموعةُ أطياف ملوّنة تتّحِدُ في طيف واحد، وهو جداولُ من الإشعاعاتِ المرسلةِ كضفائرِ الأنثى الحسناء تأتيك في إشعاع متألّق، هوَ مَلكاتٌ ومواهِبُ تختلفُ لتشكّل مملكة البيان الناصع، هو باعثٌ على الإلهام والإيحاء، طيفُه يداهمك أينما كنت. وما زال عالماً من السّحر الحلال، يحرِّضُك بصُمِّ حجارته من الكلمات، ويداعبك ملاطفاً بعذب معانيه وروعة موسيقاه … تحتار في فكِّ ألغازِهِ وتحليل نسغِهِ . يدعوك إلى مائدة الأسئلة المحيِّرة، يحرمك من لذّة النوم فيهرب بك إلى لذّة الوصالِ والتأمُّلِ والحكمة … يتركك على أبوابه الواسعة تبحث عن وسيلة تسعفك في فكِّ ألغازه ورموزه وصوره . وإذا ماعجزت استسلمْتَ للقطيعة وحلّتِ الجفوة بينكما. هذه الجملُ الهاربة من خندقِ الأملِ والألمِ تسعى معك لإعادة جماليّةِ الشعرِ وبهائِهِ وتعقيمهِ . تسعى لتُكلِّلَ عرش الشعرِ سيِّد الفنونِ الإنسانية بما يملكه من مقوِّمات. هي إشارات تسعى لامتطاء بعض مراكبه كي تُرجِع له هيبته ووقاره، وكي تعيدَ تنصيبَه على عرشِ مملكته الجميلة، تحاول الإمساك بمجاديفه وقراءة أسطر مرافئه، تأمل باللجوء إلى فلك الصفاءِ الشعري ليستحمَّ من درن الملوّثات التي وفدت إليه، وحطَّتْ فوق كاهله. لا تدَّعي الوصاية، ولا تناصِرُ شكلاً على شكلٍ، تؤمن بحرِّية الإبداع المدعِّم بالذائقة والغيرةِ .تقدِّر الإبداع الباعثَ فينا قيمَ الجمالِ والخيرِ، وتقلِّم أظافرَ بعض القصائد المتمرِّدة على الجمالِ والأعراف والذائقة والخير . لا تدَّعي حزباً أدبيّاً أو سياسياً، تقول لك: نحن أطيافٌ في طيف، لن ننصِّب أنفسنا دركيّاً قاسياً، لا نملك العصا الغليظة، ولا نؤمن بالزنزانةِ كعقوبة للتأديب لن نضع الغشاوة أمام بصرنا و بصيرتنا، فنصادر الآراء، ونكفِّر المبدعين من الشعراءِ لا نسعى إلى بناء جنّةٍ ونارٍ نُدْخل إليهما من نشاء. الشّعر الجميل السامي الذي يرتقي إلى الأسمى والأنقى هو غايتنا، وحاجتنا ماسَّةٌ إلى رؤية نقديةٍ صائبة موضوعية، وإلى ذائقةٍ سليمة، تقدِر على الفرز والإقناع دون تشنُّجٍ، نختلف إيجاباً ولا نرسِّخ القطيعة. الإبداعُ الحقُّ مبنيٌّ على الاختلاف والتميُّز ولكنّه اختلافُ الحكيمِ والشاعرِ البارع الواثق من ملكاته وأدواته. نحن أطياف اختلفت في قضايا الشعر واجتمعت على حبِّهِ، واتفَّقتْ على ضرورة تنظيم جداولهِ، وإعادةِ لملمةِ حبَّاته، حسنُ النوايا والعفويَّةُ الناضجةُ جمَّعانا لعلَّنا نصنع شيئاً جميلاً للشعر الجميل لعلَّنا نطرحُ أسئلةً ونجيب عليها، لعلَّنا نعيدُ الشعرَ والشعراءَ والمتلقين إلى الخميلة الجميلة. إنَّ المشهد الثقافي بشكل عام والمشهدَ الشعريَّ بشكلٍ خاص يعاني من ضيقٍ النوافذِ واتساع فتحات الأبواب. ذائقةُ الشعر بدَتْ جريحة ومنزوية، فهناك طلاسم وإلغاء وشلل، الشعر تُوجعه القطيعة، وتؤلمه الادِّعاءات . فرَوْضُ الشعرِ لم يكنْ ولن يكون في يومٍ ما على درجة واحدة من الخصوبة والخضرة والعطاء، وليسَ بقادر على استقطاب الجميع. توقَّفَ الكثيرون عن التغريد والتحليق، وامتنع بعضُهم عن إبداء الرأي، وانفضَّ الحضورُ فأضحت المراكز والملتقيات شبه فارغة، ولم يسعَ أحدٌ لدراسة الحالةِ ومعرفةِ الداءِ والعلاج، حُرِمَ عشَّاقُ الشعرِ من نعمةِ الشعرِ والحوارِ والتأمل، وذاق الشعرُ مرارةَ الهجرِ فكثرت الأسئلة في النفس وغابَ السؤال العلنيُّ الجريء. نعم، الشعرُ في ورطةٍ قلْ في أزمة . فموائدُهُ خواءٌ، ولذيذها نادرٌ. وضيوفُها يعُدَّون على أصابع الكفّين، فقد تخلَّينا عن الأبهى والأنقى والأرحب، عادَيْنا الذائقة الرفيعة والحسَّ الدافئ ورحلْنا إلى مرافئ بعيدة وعجيبة ، ونحنُ لا نعرِفُ أغوارها. استسلمنا إلى لصوصِ البحرِ والتهويمات، فثُقِبَتْ مراكبنا ورحْنا نغوصُ في بحارٍ غريبةٍ ونحن لا نعرف فنَّ العوم، فجاءَنا شعرٌ بلا هوِّيَّةٍ ولا حسٍّ. جاءَنا بالتالفِ من المفردات والمبرقع من الجمل، تحدَّى سياق الجملة العربية الشعرية الأنيقة فتقَّطعَتْ أواصره، وبدا لقيطاً. راح يبني عرشَهُ على أرضٍ إسفنجيَّةٍ. جدرانهُ من القطن، وسقْفُهُ غربالٌ واسعُ الثقوب جاءَ بأمزجةٍ صداميةٍ فغاب عنّا صفاء الشعريَّة وعفويَّتُها وصنْعَتُها المتْقَنَةُ. هذه الصورة تبدو مأساويّةً وتراجيديّةً، ونُكبَتْ بها مملكةُ الشعر، فعادَتْ بحاجةٍ إلى غرفِ الإنعاشِ وإكسير الحياة . الشعرُ الحقيقيُّ على مختلفِ أشكالِهِ وأصنافِهِ أقوى من هذه الهلوساتِ، وأبلغُ من هذا الشَّطَطِ الصافع للذوق, والشاعر الحقُّ يبحث عن نوافذ يطلُّ منها على عشّاقه ويستمدُّ منها الرمقَ والهواء والنورَ … الشاعر الحقُّ يعرف مالَهُ وما عليه، ويدرك ماهِيَة الشعرِ الحقيقي، يعي تجربته، يخدمُها ويطوِّرها يمدُّ الجسورَ، يؤمن بتعدُّد الأطياف التي تشكل اللوحة الأبهى، يؤمن بقدرة النصّ على تجاوز الآخرين ويؤمن بفتنة النصّ الآسرةِ . هي دعوة لغربلة الإبداعِ ونخله . دعوةٌ لإبعاد الطفيليِّ الشاذّ ……‏‏
أعجبني
تعليق
مشاركة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء