سخرية القدر/ماهر اللطيف

 سخرية القدر


بقلم :ماهر اللطيف


رآها (وكان مع زوجته وأبنائه) في هذا اليوم الربيعي الجميل بمعية زوجها، ابنتها وزوجها وأبنائهما- أخيرًا- في مدينة الألعاب المكتظة بالناس و العائلات ككل نهاية أسبوع، وليته ما رآها- ونفس الشيء بالنسبة إليها - بعد هذه المدة الطويلة من الزمن.


إذ تلاقت الأعين، مصادفة، في مدخل هذا المقهى الفخم، الذي اعتزمت العائلتان الجلوس فيه لاحتساء بعض المشروبات الغازية، والمياه المعدنية العذبة، درءا لكل عطش، أو ظمأ قد يصيبهما من جرّاءِ هذه المجهودات المضنية التي قامت بها بين الفضاءات التجارية، والألعاب، وغيرها، فتسمر "برهان" في مكانه، وكذلك "بسمة" في نفس اللحظة دون اتفاق مسبق، وقد تغيرت ملامح وجوههما فجأة، دقت قلوبهما بسرعة فائقة، ارتعدت مفاصلهما، احمر وجهاهما، شعرا بشيح الريق وصعوبة التنفس، ذبلت أعينهما وتراخت، كاد يغمى عليهما تحت وطأة هذا المشهد الفجئي...


تفحصا وجوههما بانتباه، حملقا في بعضهما البعض جيدا، وقفا كالصنمين وهما لا يصدقان ما فعل بهما القدر، "تحنطا" في مكانهما و" تجمدا" وهما يتساءلان في داخلهما عن سر هذه المصادفة بعد هذه المدة الطويلة جدا، تبادلا النظرات وكل واحد منهما يدقق في تغييرات الزمن، وتلاعب السنوات بهما وبأجسادهما، شحوب وجوههما وبياض شعرهما غزو التجاعيد وغيرها من علامات التقدم في السن، (وكان بقية أفراد كل عائلة من العائلتين يلاحظون هذا المشهد ويتساءلون عن سره وفحواه في دواخلهم، لكنهم لم يتحركوا أو يفسدوا هذا المشهد الجميل للبعض والغريب للبعض الآخر) .


وبقيا كذلك هنيهة، يتحاوران عن طريق قلبيهما، وأعينهما، وعقلهما، يتبادلان اللوم والعتاب، السخط والغضب، الحب والكراهية، الندم والتأسف، يرويان أعينهما من بعضهما البعض بعد تصحرهما وعطشهما الذي طال...، فقالت - بعينيها- :


- آه لو تعلم عمق وكبر الجراح التي تسببت لي فيها أيها الخائن، الأفاك، الكاذب، المتصابي، عديم المسؤولية ....


- (مقاطعا بعينيه اللتين ذبلتا ونظرتا أرضا) لم أخنك يا حبيبتي، لكن الواقع فرض علي الانسحاب، الهروب، التقهقر إلى الوراء، الابتعاد عنك وعن مستقبلك المشرق ما دمت غير مؤهل حينها لتأمينه في ظل ظلام واقعي


- (صائحة ومزمجرة) أين ذاك الحب الذي بلغ درجة الهيام؟ أين تلك الوعود والأماني والأحلام التي شيدناها معًا يوما بعد يوم؟ ..... أكرهك، أكرهك، أكرهك ولا أريد أن أراك مجددا...


بغتة،"تتحرر" بسمة من قيودها وتفك "حبسها"، تتحرك، تمسك زوجها من ذراعه - وهي تتصبب عرقا وترتعد، تمسك غيظها وتود أن تقتص من حبيبها القديم -، تأمر ابنتها وعائلتها باتباعها وتغيير المكان الذي لم يعجبها - حسب زعمها-، وهي تشرح ل "الهادي" زوجها وتجيبه عن أسئلته بخصوص ما حصل، دون أن تبوح له بالحقيقة، بل إنها اكتفت بالقول أنها "شبهت عليه، قد يكون درس معها يوما ما، عمل معها، أو تعامل معها يوما ما في أي مكان أو زمان...، المهم أنها لم تتذكره، لذلك لم تكلمه ولم تسع إلى معرفته" (ولم يصدقها الهادي طبعا، لكنه لم يعلق على ما سمع، ناهيك وأن الأمر اقتصر على تبادل النظرات لاغير في المجمل، كما كان يرى).


في حين بقي برهان مشدوها، متمركزا في مكانه دون حراك، يستنجد بذكريات معرفته ببسمة التي تعود إلى ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة، حين جمعتهما مقاعد الدراسة في الجامعة، فتوطدت العلاقة بينهما إلى أن باتت مرجعا من مراجع الهيام ومثالا يحتذى به بين الطلبة، الشيء الذي جعلهما "يبنيان" قصورا من الأحلام، يخططان، يدرسان كيفية العيش "غدا" تحت سقف واحد حين يتزوجان ما إن يتما دراستهما.


لكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تقدم رجل ثري لخطبة بسمة (الهادي زوجها الحالي)، وأعرب عن استعداده الزواج بها فورا، وإعطائها ما تستحقه (وعائلتها خاصة)، مع السماح لها بمواصلة دراستها وتشييد حلمها متى أرادت ذلك، وقد أهداها حينها سيارة فخمة، و وعدها بقصر باسمها في منطقة راقية، و مبلغا ماليا محترما في أحد البنوك - إن وافقت على هذا العرض-.


فاتصلت ببرهان، وقصت عليه القصة برمتها (خاصة تحمس والديها وترحيبهما به وبعروضه المغرية) عساه يتحرك، يجد الحل، يدافع عن حبهما وأحلامهما، يسرع في خطبتها في الحال لتستطيع رفض الهادي، والاستماتة في ذلك بتشجيع من أختها سلمى التي تعرف قصتهما بحذافيرها....


لكنه، عجز عن التفكير، التحرك، الدفاع عن مستقبله...، بل إنه انقطع عن الدراسة (ولم يفصله عن الحصول على الشهادة الختامية غير بعض الأشهر)، ركب البحر مع المهاجرين غير النظاميين، وقصد الضفة الأخرى أين بقي عشرين عاما يعمل أعمالا كثيرة (في الحلال والحرام)، يكنز المال، يقتصد في المصاريف.... ، ثم عاد أدراجه إلى وطنه، وأسس شركة تجارية صغرى يقتات منها هو وعائلته الكبرى أولا، ثم الصغرى لاحقا بعد زواجه و إنجاب أولاده.


وما زال كذلك، يحلق في سماء ذكرياته، وينبش في صفحات كنش علاقاته القديمة ، حتى ذُعر فجأة عند بلوغ صوت "مريم" زوجته إلى أذنه وهي تصيح، تزمجر، تلعن وتسب وتسأل عما رأت، طالبة توضيحا وتفسيرا لذلك دون الاعتماد على التبريرات الواهية واختلاق الأعذار والكذب والتلاعب وغيرها من التقنيات التي كان يتقنها برهان.


إلا أنه لم يفعل ذلك البتة هذه المرة، بل إنه كان صادقا - أول مرة في حياته - وقص عليها القصة بتفاصيلها وأحداثها المملة، قبل أن يعلم مريم أنها "حبه الحقيقي، رفيقة دربه، صانعة أمجاده ونجاحاته، آمنة سره، أم أبنائه ومربيتهم الصالحة، ..." ، فزاد موقفه هذا من تمتين علاقته بزوجته وتقريبها منه، بدل نفره وكرهه والاحتياط منه إن هو جنح إلى الكذب والزيف والهروب من الحقيقة مهما كانت صادمة، مرة، صعبة، وحتى مؤلمة...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء