في ذكرى وفاة المصلح السياسي عبد الرحمن الكواكبي/محمود محمد أسد
في ذكرى وفاة المصلح السياسي عبد الرحمن الكواكبي
- الكواكبي الحاضر دائماً-
ربَّما يَسأل المرءُ: لماذا الكواكبي وبعد مئة سنة وأكثر على رحيله في ظروف غامضة؟ ألم يعد هناك سوى هذا الرجل المصلح الذي أدَّى دوره على أكمل وجه في عصره؟. لماذا تتوقف عنده رغم مرور قرن أنجب الكثير من العلماء والنابهين؟ والعالَمُ أيسعى الإنسانُ فيه إلى الوراء أم يسعى بخطواته إلى الأمام؟!
هي أسئلة واردة وغيرها الكثير من سيل الأسئلة. ولكنها تجر أسئلة من نوع آخر، تكون إجابةً عن الأسئلة السابقة. وهي أسئلة تلحّ علينا ونحن في أول هذا القرن الذي حمل معه الكثير من تبعات القرن الماضي..
أسأل نفسي سرًّا: هل يموت الإنسان بموته البيولوجي عندما يوارى الثرى؟ وهل عطاءُ الإنسان يتوقف مع توقف نبض القلب وشلل حركة المخ وآلية التفكير؟! وتأتي أسئلة أكثر دقة وأعمق تأثيراً: هل تموتُ آراءُ الإنسان وأفكاره وتجاربه بموته جسداً ومفارقته الحياة؟ وهل العلاقةُ منقطعةٌ بين الأجيال والشعوب لدرجة الفصام والهجر؟ وهل أحداثُ التاريخ مختلفةٌ اختلافاً جذريّاً؟ وهل أحداث التاريخ تعود ثانيةً؟ وهل أساليب الاضطهاد والاستعمار وأعداء البشرية تتغير في جوهرها وأساليبها؟؟؟
هي أسئلة ملحةٌ دعتنا للكتابة عن عبد الرحمن الكواكبي رجل الفكر والإصلاح. وهي التي ولدت رغبتي بالكتابة وأنا أنظر إلى الواقع العربي والإسلامي. هذا الواقع الذي بدا عارياً ومعروفاً للقاصي والداني والصغير والكبير والجاهل والمتعلّم.. إنه واقعٌ فيه الكثير مما يقال، وفيه بقع وسحب داكنة سوداء، تكاد تغطيه. وقد خيم الإحباط على الغالبية العظمى.. وهو واقع مقروء وملموسٌ في عهد الفضائيات الغازية بيوتنا دون حذر.. إن أفكار المرء النابعة من عمق المأساة ومن قلب الواقع والأحداث لا تموت، وتبقى شاهداً حياً وقنديلاً هادياً. والآراء النيرة تظل ساطعة في الأيام الحالكة وفي خضمَّ الأحداث، تستمدُّ استمراريتها من حرارتها وصدقها وملامستها للواقع.
مات الكواكبي جسداً في مصر، وكتب على قبره بيتا الشاعر حافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التقى
قفوا واقرؤوا أمَّ الكتاب وسلّموا
هنا خير مظلومٍ، هنا خير كاتب
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
ولكنه خلَّف فكراً وآراءَ ساطعةً، ما زالت تخيَّمُ بفيئها على مساحات واسعة من خلايا جسد الأمة العربية والإسلامية. مازالت سحباً تحتاج لمن يستمطرها في هذا الزمن الملبد بسحب الخيبة المتشعبة كالسرطانات في جسد الأمة العربية تحديداً والعالم الإسلامي عموماً..
هذا الجسد وهذا العالم شغلا فكر الكواكبي ردحاً من الزمن، ودفعاه لبثّ الكثير من آرائه النيّرة التي أقلقت السلطة الاستبدادية وأعوانها. فدفع ثمن أفكاره مطاردةً وتضييقاً ومحاكمة ومن ثمَّ هرباً وموتاً في ظروف مشبوهة..
القارئ لأفكار الكواكبي الموجودة في كتاب طبائع الاستبداد وفي كتاب أم القرى، وفي الصحافة التي أصدرها، يعرف مدى عظمتها ومدى حاجتنا إليها. ويجزم بأننا أكثر حاجة إليها في وقتنا الراهن بعيداً عن امتداد الزمن فلا تموت الأفكار بموت أصحابها.
إنّ مستجدّات الحياة والواقع السياسي العربي والإسلامي وما فيه من مخلّفات اجتماعية وفكرية، تُلح علينا، وتدعونا لاستحضار أفكار الكواكبي التي ما زالت مصدر إشعاعٍ، ومبعث أمل. ولم الكواكبي الآن..؟
لأنه يملك مواصفات الطبيب المصلح، ولأنهُ استطاع تحديد الداء ووصفه تحليلاً دقيقاً ثم وضع له الدواء الشافي. وكتاباه السابقان يشهدان على رجاحة فكره التنويريّ، وعلى بزوغ أفكاره الجليّة، وهي محطُّ أنظار الكبار، وهي مصدرٌ ثمينٌ لمقولاتهم. ويقيني أن تشخيصه للداء القديم ما زال هو هو.. وأن وصفه للدواء ما زال فعّالاً ولم تمت وصفته بقدم الزمن بل أصبحت أكثر إلحاحاً. ألم يعد الطبُّ إلى طبَّ الأعشاب رغم ثورته العلمية؟ ألم نُتْخَمْ بالتنظير والتحليل والتسابق لخلق مشاريع نهضوية تؤطّرها شاشات التلفزة والفضائيات، وتعرضها الكتب والندوات والمهرجانات؟ وماذا قدمت لنا أخيراً سوى الأفكار المسبقة؟
لو كان الكواكبي حيّاً جسداً وعاصر المرحلة لما فرَّق بين المستبد والصهيونية والاستعمار وغيرهم، وكان قد كشف جرائم وطباع الصهيونية ممثّلةً بأمريكا عدوَّة الشعوب.. والحكّام. ولأبرز دور رجال الدين، وحمَّلَهم مسؤولياتهم كاملةً في الوقت الراهن، وكان قد فرَّق بين التكسُّب من الأدب والدين والفكر والسياسة وبين الإيمان والتمسك بالأهداف النبيلة:
لقد ارتفع صوت الكواكبي وسطعت آراؤه في زمن خيّم فيه اليأسُ والإحباط والاستسلام.
فراح ينفخ الروح، ويثير الهمة والعزيمة، وأجزم أن واقع الحال بعد الأحداث الأخيرة في أفغانستان وفلسطين وغيرهما قد رمت ظلالها الثقيلة، فأدخلت الناس في حالة إحباط واستسلام. ولذلك صرخته مازالت تطرق مسامع العاقلين:
((ينبغي أيها السادات أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور، كيلا نيئس من روح الله، وأن لا نتوهّم الإصابة في قول من قال أنَّ أمتنا ميَّتةٌ، فلا ترجى في حياتنا. كما لا إصابة في قول من قال إذا نزل الضعفُ في دولة أو أمّةٍ لا يرتفع. فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها كلها أممٌ أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية. هذا ما ذكره الكواكبي في أم القرى على لسان رئيس جمعية أم القرى..
هذا الواقع الذي نعيشه يدفعنا للتفكير بالشباب والأطفال والنظر إلى المستقبل، لنبني مستقبل الأمّة، ولا يكون ذلك إلاّ بتقديم الخبرة للشباب وإعطائهم جرعات الثقة، والإيمان بدورهم فهم صانعو مجد نهضتها فيقول في ذلك: وليعلم أنَّ الناشئة الذين تعقد الأمة آمالها بأحلامهم، عسى يصدق منها شيء، وتتعلق الأوطانُ بحبال همتهم، عساهم يأتون فعلاً. هم أولئك الشباب ومن في حكمهم.
أيوجد رأيٌ يتنافى مع هذا الطرح وهذه الأفكار؟ فالكواكبي باقٍ بأفكاره وآرائه ومواقفه كغيره من عباقرة الأمم. فقد قدم شيئاً ليبقى. وقال أفكاراً حيَّة وباعثةً للعمل والتفكير. قد تختلف الظروف وتتطور الحياة. ولكن نقاط الارتكاز والانطلاق هي الأساس والجوهر. وهذا ما قاله الكواكبي. وربَّما يقول قائلٌ: هل أفلسنا فعدنا إليه وإلى أمثاله؟
ليست القضية قضية إفلاس بقدر ما هي استمرارية الفكرة وصلاحيتها المتوهجة. وإني أقول: نعم نعاني شيئاً من الإفلاس. ولماذا المكابرة؟ فلنرجع إلى دفاترنا القديمة التي استمدَّ الغرب منها نهضته والتي صَدَّرَها لنا بلونه وصباغه الخاص. فَتَلَقَّفْناها سهلة دون بذل عناء..
إن صيحات الكواكبي تطرق آذاننا، وتصفع جمودنا وخنوعنا. وهي آراء لا تأفل بل تزداد سطوعاً وإشراقاً. وتصور الكواكبي بيننا يقرأ الواقع، ويتصور المصير، فيبحث في الأسباب ليصف الدواء، ثم يعود ثانية، ويضع بين أيدينا كتابيه المليئين بالدُّرر والنجوم المشعة.. لنتأمل مقولته في الاستبداد، ونعكسها على الواقع الغربي ممثلاً بأمريكا وإسرائيل المزعومة ".. إن المستبد يودُّ أن تكون رعيته بقراً تحلب، وكلاباً تتذللُ، وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك، فتعرف مقامها منه. هل خلقت خادمةً له أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها. والرعيّة العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم المستبدّ، تقول له: لا أريد الشر ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل. فإن الظالم إذا رأى المظلوم قوياً لم يجرؤ على ظلمه.."
أليست هذه المقولة وصفة عصرية بإمكانها أن تكتب للواقع العربي في مواجهة أعدائنا، وقد ربطها بالإدراك والعقل والوعي والإرادة وهي النقطة الأساسيّة في تجاوز سوء الحال. وفي صدَّ العدوَّ.
كان الكواكبي سبَّاقاً ورائداً في فكرة المؤتمرات التي تخيلها وأراد تجسيدها. والتي اعتبرها نواةً أساسيةً للوحدة والبناء.. ورسَّخ من خلالها دور الحوار والمكاشفة وتبادل الآراء. وأبرز أهمية تقارب الأفكار وتكاملها.. وما أحوجنا إلى هذا المناخ الفكري المعافى والمعقم من الأهواء والارتجال.. فنبذَ التعصُّبَ الأعمى ونفَّرَ الناس منه، وشخصه كداء خطير على الأمة، واعتبر رابطة الوطن أسمى وأمتن من كل رابطة واهنة. والواقع العربي المفكَّكُ والذي بدا لا حول له ولا قوة أمام الأحداث الخطيرة يخاطبه الكواكبي متألّماً ومؤمناً بالانتماء القومي:
"يا قومُ ينازعني - والله – شعورٌ. هل موقفي هذا في جمع حيًّ أحييه بالسلام أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة. يا قوم لستم أحياء عاملين ولا أموات مستريحين بل أنتم بين بين.. يا قوم ألهمكم الله الرشد. متى تستقيم قاماتكم، وترتفع من الأرض إلى السماء أنظاركم، تميل إلى التعالي نفوسكم، فيستقِلَّ كلُّ إنسانٍ منكم بذاته ويملك إرادته" هذا ما ذكره في طبائع الاستبداد ص 139 هذا الإحساس القومي نابع من إيمانه بدور العرب الحضاري وأن العرب بمثابة القلب للمسلمين، فإن دعوته لمؤتمر إسلامي في أمَّ القرى لا يلغي انتماءه القومي. بل يبرز دور العرب في قيادة هذا التجمّع الذي أراه ملحاً وضروريّاً في الوقت الراهن. فدعوة الكواكبي لجمع الشمل وتوحيد الموقف مازالت حية وقريبةً من أذهاننا. وهي دعوة إنسانية.
"يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين.. أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد.. فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين.. دعونا نجتمع على كلمات سواء. ألا وهي: فلتحيا الأمّة، فليحيا الوطن فلْنحيا طلقاء أعزّاء.." ص 139 طبائع الاستبداد.
وهذا الحبُّ الجميل الفوّاحُ بعبق الوطن والحبَّ له يبدو متفقاً تجاه الوطن، هذا الوطن الذي لا يبنى إلاَّ بتكاتف وتعاضد أبنائه. وهي دعوة صادقة شفافة مازالت تفتح صدرها لأبناء الوطن. فالكواكبي كان قريباً من الواقع والظروف، فلامَسَ القضايا عن قرب بعيداً عن التنظير والتهويل والتغريب، واتّسعت دائرةُ اهتمامه التي بدأت من الإنسان ثم الوطن الذي خاطبه كثيراً بأرق العبارات. ثم الأمة العربية والإسلامية وفي النهاية يعتبر الجميع جزءاً لا يتجزّأ مع إعطاء كل ذي حق حقه. فخاطب الوطن قائلاً: "وأنت أيها الوطن المحبوب: أنت العزيز على النفوس، المقدس في القلوب، إليك تحن الاشباح، وعليك تئن الأرواح.. أيها الوطن الباكي ضعافه: عليك تبكي العيون وفيك يحلو المنون. إلى متى يعيث خلالك اللئام الطغاة؟ يظلمون بنيك، ويذلّون ذويك، يطاردون أنجالك الأنجاب، ويمسكون على المساكين الطرق والأبواب. يخرَّبون العمران ويقفرون الديار؟."
هي أسئلة دامية وتساؤلات جريحة وبوحٌ حزين لواقع وطن ملاحق أبناؤه.. ومازال مستهدفاً، وما زالت مقولة الكواكبي تدوَّي في سماء العروبة هذه الصرخات الجريئة ضايقت خصومَهُ فلوحق مراراً، وأُغْلِقت صحيفته لأنه كان يناصر المستضعفين ويكتب لهم الشكاوى التي تقدم للسلطان ثم دخل السجن وعومل معاملة سيئة، فحبس حبساً منفرداً ووقف على باب غرفته جنديان مسلّحان. هذا ما ذكره الشيخ كامل الغزّي في مجلة الحديث العدد السادس 1929 تحت عنوان " تاريخ ما أهمله التاريخ من سيرة الكواكبي ".
في مثل هذه الظروف المحيطة نجد الكواكبي الأقرب إلى نفوسنا، ونجد قراءتهُ من جديد أمراً ضروريّاً لأنها تصبُّ في الواقع الراهن وتُغذّيه. فقد تفوَّق الكواكبي على أقرانه بسعة أفكاره وتجاوز زمانه، واقترابه من الشرائح الشعبية البسيطة دون تكبر. فلا غرابة أن يسميَهُ الباحث الدكتور محمد جمال طحان بأبي الضعفاء.. وهو الذي تناوله دراسة وتحليلاً ومتابعة واختص به فجمع أعماله الكاملة وأصدرها ونال إجازة الماجستير في الاستبداد وبدائله في فكر الكواكبي ولا عجب أن أتناول شيئاً يسيراً من أفكاره وبإيجاز مكثَّف.
لم يقدم الكواكبي أفكاراً معلَّبة ومسبقة الصنع. أو مستوردة مهجَّنة أو مستنسخة. ولم يقدم أفكاراً لم تُفَصَّل لطبيعة تكويننا وطبيعتنا لا لون لها ولا رائحة، وتموت مع أول موسم وافد . نعم، الكواكبي كان متمرداً على الواقع ولكن تمرده مدروسٌ ومسلحٌ بالعقل الحصيف. وليس تمرّداً أهوج. فأفكاره ليست ضبابيةً أو سوداوية. وليست مغلقة على نفسها، بل نراها إلى جانبنا.. لا تحتاج إلى فك ألغازها ورموزها. ولا تدعوك للتهور والانكفاء على الذات. قد فهم العلاقة بين المستبد والشعب. وبين المستبد والعلماء وبين العلماء والشعب.. هذه العلاقة التي استند عليها في تعامله مع الواقع ومستجدّاته. وهي علاقات لها دلالاتُها وتأثيرُها ونحن أحوج ما نكون إليها. ولو جئنا بأفكار الكواكبي مجرّدةً من صاحبها وعصرها ووضعناها أمامنا لعرفنا مدى صلاحيتها وأهميتها للمرحلة الراهنة.
تمكن الكواكبي من وضع الحدود في العلاقات. فالكواكبي يريد من رجل الدين أن يكون كسلفه الصالح. يتقرب له الحاكم ويهابه، ويحسب حساباً له، لا يتقرب هو للحاكم، ويتملقه ليكسب وده وعطاياه.. وهي نقطة هامة تدعو للتأمل والتمركز حولها من ناحية ولإكبار عقل الكواكبي من ناحية أخرى.
من خلال نظرته المتأنية وعقله الراجح وضع الحدود للممارسات الدينية، فأظهر الخطأ من الصواب. وحمَّل رجال الدين كامل المسؤولية على عاتقهم. فقد شنَّ الحرب. على بعض ممارسات المتصوَّفة الذين نسوا وظيفتهم الدنيويّة الفاعلة، واتجهوا إلى عالم غريب مشوب بالحذر والنتوءات. فقال: ومن العادة أن يلجأ ضعيف العلم إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكِبَر، وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس والأثاث.
ويعرَّي الكواكبي ألئك المدَّعين العلم، والعلم منهم براء.. فبعضهم لا يحسنون قراءة نَعْوَتَهُمْ المزوّرة، وبعضهم يشرك بالله.. يلبسون كما يلبس كهنة الروم. وبالمقابل يشنُّ غضبه على قضاة الدولة العثمانية في العاصمة لأنهم تقاعسوا بدورهم وفي عهدهم كانت المناصب تباع وتشترى واقتصرت على المنافقين وهذا ما ساعد على بروز فئة جاهلة تَدَّعي العلم بالدين.. وهذه القضية لو تأملناها في وقتنا لوجدنا أكثر من ذلك. وهناك من يشجَّعها ويرسخها.. فنحن بحاجة لرجال فكر إسلامي، بحاجة لمن يبحث وينقَّب، ويجتهد، ويقترب من الواقع بعيداً عن الجمود والتحجر.. وقد وجد الكواكبي صدوداً من هؤلاء، لأنهم وجدوا فيه محطماً وحاجزاً لطموحاتهم. واستند الكواكبي في دعوته على الجانب العقلي الذي استمدَّ منه الكثير من مقولاته وأفكاره، فكان حريصاً على العناية والاهتمام بدراسة العلوم العقلية، وخاصة العلوم الرياضية والطبيعية، وأرجع الكواكبي تخلف المسلمين وضعفهم واستكانتهم إلى إهمال هذه العلوم.. وأجزم أن هذه الوصفة مازالت وصفة تنبض بالحياة وتوزن بالذهب لأهميتها وحاجتنا الملحة إليها كي نواكب مسيرة تقدم العصر ومنجزاته العلمية الهائلة المتسارعة..
جرأة الكواكبي تجاوزت خطابه إلى السلطنة العثمانية والاستبداد، فرأى أن أفضل الجهاد في الله هو الحطُّ من قدر العلماء المنافقين والجهّال وتحويل احترام الناس للعلماء العاملين. حتى إذا رأى الحكام ذلك انقادوا هم أيضاً واضطروا لاحترام العلماء.. وفوق هذا يضع على العلماء مسؤولية دخول الخرافات والخزعبلات والباطل والبدع.. وتسلَّح بالاعتدال فهو ليس مع المتشددين من العلماء. وليس مع المتساهلين المتهادنين. على مبدأ لا تفريط ولا إفراط. والأخذ بمقولة: الفضيلة وسط بني رذيلتين..
فالكواكبي كان مصيباً في هذه النقطة الهامة. لأنَّ عامة الناس البسطاء يندفعون ويسيرون وراء هذه الفئة الضعيفة وهذا ما ينعكس سلباً على واقع المجتمع اجتماعياً وفكرياً واقتصادياً.
ركز الكواكبي على بناء المجتمع من الداخل. فتوجه إلى شريحة المجتمع التي تدفع الثمن الباهظ. فالجهاد الأكبر في صدَّ النفاق والرياء الممثَّل بطبقة أدعياء الفكر والدين. وهي دعوة حارَّةٌ وحيَّةٌ أراها من ضروريات الواقع. وبحاجة لمن يأخذ بهذه الوصفة ويتقيد بها ولو ضايق الكثيرين المنتفعين الذين نصّبوا أنفسهم سدنةً للعقيدة والأوطان والمثل. فالإسلام في نظر الكواكبي سَمْحٌ خالصٌ من الشوائب والتشدُّد. والإسلام عنده يقوم ويعتمد على أحكام القرآن وما ثبت من السنة، وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول. فالإسلامُ لا يضمُّ ولا يحوي في داخله ما يرفضه العقلُ وينفر منه أو يناقضه المنطق العلمي. ولذلك توجه إلى عامة الناس ودعاها لتكوَّن نفسها ولتأخذ بالعقل والعلم. فألحَّ على تعليم المرأة. وجعله هدفاً ومطلباً ضرورياً لا غنى عنه. وأبرز دور المرأة في ميادين الحياة.. وقد سبق بدعوته كلَّ من دعا لتحرير المرأة من بعده كقاسم أمين وغيره.. فقال: إنَّ لانحلال أخلاقنا سبباً مهماً آخر يتعلّق بالنساء، وهو تركهنَّ جاهلات على ما كان عليه أسلافنا حيث كان يوجد في نسائنا كأمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي أخذنا نصف علوم ديننا ..".
وبذلك يكون الكواكبي قد حمل على كاهله تركةً ثقيلةً وعبئاً كبيراً من التركات التي يحملها المجتمع. ولكنه شاء أن يزيحها ويعوض عنها بالصالح والمفيد. فكانت دعوته ذات صبغة عقلية تنويرية، تقترب من هموم الناس الذين يسعى المستبد إلى تجهيلهم وتركهم في حالك الجهل.. ليس من غرض المستبد أن تتنوَّر الرعية بالعلم.. وخاطب العلماء: لقد اندسَّ في صفوفكم الكثير من المنافقين الذين تملّقوا السلطان فأصبح لا يخشاهم، ولا يخاف بأسهم. هم يتملقونه بما يخلعونه عليه من ألقاب وهو يقابل ذلك بإنعاماته عليهم..
للكواكبي مواقف صريحة وجريئة، ومواقف تدعونا لإجلاله وتقديره. والحديث عنها ذو جدوى. ويكون أكثر فائدة وجدوى إذا تعمَّقْنا بهذه الأفكار والتي مازالت مطلباً ملحاً، وهي تطرق مسامعنا بما تحمله من آراء.. إنَّ أفكار الرجال لا تموت بموتهم. والرجال الكبار لا يموتون مطلقاً لأنَّ أفكارهم ومواقفهم تبعثهم وتستحضهرهم أمام الأجيال.. وأفكار العلماء النيرة أطول من قاماتهم وأعمارهم ومناصبهم والكواكبي واحدٌ من ألئك الكبار الذين أشعلوا شموعهم، وبثّوها في دروبنا المظلمة. فالفكر يبقى، والأفكار كطائر الفينيق لا تموت، بل تنهض دائماً وهذه إجابتي عن بعض الأسئلة التي أثرتها في مدخل البحث فأقول:
فما زال بين الناس يحيا بفكره
يضيء على الدنيا بسحر بيانه
ستبقى إذا الليل ادلهمَّ بظلمِهِ
ويسطعُ بالآراء فوق الكواكب
ويمسح جهلاً حطَّ فوق الثوابت
منارة أجيالٍ، ألستَ الكواكبي؟
***********
محمود محمد أسد
تعليقات
إرسال تعليق