مزايا الانكسار في نص لا تقتلوا الأحلام للشاعرة اللبنانية سامية خليفة / القراءة بقلم الناقد داود السلمان
مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية سامية خليفة
القراءة بقلم الناقد داود السلمان
أولًا:
وأنا اتابع، بشغف، ما تكتبه الشاعرة اللبنانية سامية خليفة، من نصوص شعرية، وتنشرها على الصفحات الثقافية لبعض الصف المحلية، وكذلك المواقع الإلكترونية، من نصوص كثيرة، كنت اتابع هذا عن قرب، وقد راق لي هذا النص الشعري، من بين نصوص كثيرة، والذي عنونته الشاعرة خليفة، تحت عنوان "لا تقتلوا الأحلام" فارتأيت أن أحلله بهذا الكلمات البسيطة، والجُمل الأكثر بساطة، وهي وجهة نظر متواضعة، لعلها لا ترق للبعض وقد تروق لآخرين.
ثانيًا:
النص الذي بين يديّ يفيض بالشجن ويخاطب عمق الوجدان الإنساني من خلال صور رمزية كثيفة تنقل مشهدًا من الألم الجمعي والخذلان القاسي الذي تتعرض له الأرواح الحالمة في بيئة قمعية خانقة. يبدأ النص بصور المطر والرعد، لكنه سرعان ما يكشف أن ما نزل لم يكن سوى دمع من عيون ذابلة، وما سُمِع لم يكن صوت الطبيعة بل ارتطام الخذلان المتكرر في صدر من بقي يحلم. تتهاوى الطيور في هذا المشهد، لا ككائنات مجنحة فحسب، بل كرموز لكل من حاول أن يحلق بعيدًا فكسرت أجنحته قبل أن يبلغ الحرية، وكل من لامس الحنان يومًا ثم أدرك أنه لا يكفي لمداواة جراح الطيران المحطم. يبكي القمر، ويمنح منديلاً من الغيمة، وكأن الكون ذاته يواسي الفقد، لكن الحزن لا يبرح المكان، والطيور تتساقط، ولا تجد إلا جثثًا متفحمة، والحرية غائبة، بل مختنقة، وكأن الحلم نفسه لم يعد يجد هواء يتنفسه. "إلا دفق هطول دمع" حين يختفي القمر ويذوب، لا يترك سوى دمعة سوداء على منديل غيمة بيضاء، مشهد بديع في تشكيله البصري لكنه مرير في دلالته الرمزية، فهو يوحي بأن حتى الضوء، حين يغادر، لا يترك خلفه إلا أثرًا من سواد.
وتستمر الصور في التأرجح بين الحزن والرمز، لتتحدث عن الصور المبللة، الآيلة للأفول، وكأنها ذاكرة الشعوب المنهكة التي بدأت تتلاشى، تلك الشعوب التي صارت مجرّد ظلال، لا أجساد لها، مهمشة، لا صوت لها، مهزوزة، لكنها ما تزال تنام على رجاء أن يمتد الحلم يومًا ليعيد إليها نبض الحياة. وبين اهتزازات الأيادي المرتعشة ونبض القلق، ثمة بطانة من أمان زائف، يحاول الإنسان بها أن يتشبث بأمل قديم. وفي النهاية، وعلى الرغم من هذا المدّ القاتم من الصور، يطل النص بنداء بسيط عميق: لا تقتلوا الأحلام. هو ليس مجرد رجاء، بل مقاومة ناعمة، ترفض مصادرة الحلم، لأنه آخر ما تبقى في بلادي من حياة. الجملة الأخيرة تمثل ذروة المعنى في النص كله، فالحلم هنا لا يعني التمني فقط، بل هو الحرية، والكرامة، والهوية، والقدرة على أن نكون. بتوضيح أكثر، النص شديد الكثافة، لغويًا ووجدانيًا، يعتمد على لغة تصويرية مفعمة بالإيحاء والرمز، تجعله أقرب إلى قصيدة نثرية ذات بعد سياسي واجتماعي، دون أن يفقد تماسّه بالبعد الإنساني العميق.
ويُعدّ النص في عمقه دعوة للمقاومة المستمرة، للتشبث بالحرية والحلم رغم كل القهر، رغم كل الانكسارات. هو اعتراف بالواقع المرير، لكنه في الوقت ذاته تأكيد على أن الأمل لا يموت ما دامت الأحلام حية. هذا المزيج من الألم والأمل يجعل النص قويًا ومؤثرًا، ينقل للقارئ تجربة إنسانية عميقة ومؤلمة لكنها في النهاية تحمل بصيص نور في الظلام.
وفضلًا عما ذكرنا، النص يتنفس حالة من الحزن الكثيف الذي يمتزج بالخذلان، لكنه في الوقت ذاته يحمل رغبة خفية في الانتصار. الأمطار التي لا تمطر إلا دموعًا ليست مجرد حالة طبيعية، بل هي استعارة لطبيعة الواقع الذي لا يغذي ولا يثمر، بل يغمر بالوجع. هذا الحزن الذي ينهمر من "عيون ذابلة" يشير إلى حالة من الجفاف الروحي والإنساني، حيث تتلاشى الحياة تدريجيًا مع كل دمعة. "إلا صوت الخذلان/ يترنّح في نشيج".
وبالتالي، الرعد، الذي عادة ما يكون صوت قوة الطبيعة وانفجارها، هنا يصبح صوت الخذلان، كما لو أن كل طاقة وانفجار متوقعة تحولت إلى خيبة وانكسار. النشيج المتناثر في الطيور التي تكسرت أجنحتها يعبّر عن فشل الأحلام في الانطلاق، عن رغبات مقيدة لم تجد سبيلها إلى الحرية.
عندما تسقط الطيور جثثًا متفحمة، فهذا يعني أن الحرية قد ذهبت إلى موت حقيقي، ليس مجازيًا فقط. اختناق الطيور دليل على الحصار والخنق، على قمع الحريات التي لا تستطيع أن تتنفس أو تتحرك. هذا اختناق يتسرب إلى كل أركان الحياة، حتى القمر الذي يمثل الأمل يختفي ويذوب.
في جانب آخر، الصور المبللة التي يجففها النور وتحولها إلى صبر تعكس معركة داخلية بين الألم واليأس من جهة، والإرادة والتشبث بالحياة من جهة أخرى. الشعوب المهمشة التي أصبحت ظلالًا بلا أجساد تعبر عن فقدان الوجود، عن اختفاء الهوية والكرامة، عن تحول الإنسان إلى مجرد ظل في عالم صار قاسيًا لا يرحم " هي صور الشعوب المهمشة".
الاهتزازات والأيادي المرتعشة التي تغطي القلق بطبقة من الأمان المزيف تحكي عن خوف الناس من الواقع، ومحاولتهم المستميتة للحفاظ على بعض الاستقرار حتى لو كان زائفًا، خوفهم من مواجهة الحقيقة المرة.
النهاية التي تحمل نداءً صريحًا للحفاظ على الأحلام، وعدم قتلها أو سجنها أو مصادرتها، هي بمثابة صرخة تمرد ضد القهر، ودعوة للحفاظ على الروح الإنسانية التي لا يمكنها أن تعيش بلا أمل. الحلم هو نبض الحياة، وهو القوة التي يمكنها أن تعيد الحياة للطيور والقمر، أي للأمل والجمال " لا تجعلوا الأحلام في بلادي مصادرة".
ثالثًا: النص-
(لا تقتلوا الأحلام)
*سامية خليفة
ما أمطرت
ما ذاك الذي انهمر
إلا دفق هطول دمع
من عيون ذابلة
ما أرعدت
ما ذاك الذي انفجر
إلا صوت الخذلان
يترنّح في نشيج
الطيور التي
تكسرت فيها الأجنحة
منحت أصابع الحنان
تمسد الآلام
القمر الباكي
منح من الغيمة منديلا
الطيور تساقطت
وجدت جثثا متفحمة
هي لم تعثر على الحرية
فاختنقت
القمر اختفى
ذاب
ترك من بقاياه دمعا أسود
على منديل غيمة بيضاء
الصور المبللة
الآيلة للأفول
جففها النور
مدها بالصبر
هي صور الشعوب المهمشة
صارت ظلالا بلا أجساد
اهتزازات الأيادي المرتعشة
غطت القلق ببطانة الأمان
نام وهو يردد
الحلم سيحيي الطيور
سيحيي القمر
فلا تقتلوا الأحلام
لا تسجنوها
لا تجعلوا الأحلام في بلادي مصادرة.
تعليقات
إرسال تعليق