فاتورة التصابي /ماهر اللطيف

 فاتورة التصابي


بقلم: ماهر اللطيف


أقمر ليل "البشير"، وبدأت التجاعيد تستوطن جبينه، تراخى جسده واعتل، ذبلت زهوره، وتشققت أقدام رجليه. انحنى ظهره وضعف بصره، وكثرت أمراضه، فازدادت مصاريفه جراء زياراته المتكررة للأطباء وما يلزمها من أدوية. بدأت بوادر الزهايمر تزوره، وتبلد فكره، فاختار العزلة عن الناس بدل الاحتكاك بهم، بعدما شعر بالاغتراب وسطهم.


ومع كل ذلك، ظل البشير حيّ القلب، مشاعره ملتهبة، يعشق الحياة والنساء - خاصةً -، ويتحدى الصعاب مهما كانت قسوتها ومصدرها. كان يقبل على الحياة بنهم وشغف، يطارد غرائزه التي لا تعرف الكلل، رغم تجاوزه السبعين من عمره.


استيقظ هذا الصباح كعادته مع أذان الفجر، توضأ، صلى، سبّح، استغفر، وحوقل، ثم اتجه صوب مقهى المدينة السياحي. اختار مكاناً وسطاً يتيح له رؤية كل داخل وخارج، كما يفعل في كل يوم تقريباً. جاءه النادل بقهوته وقارورة الماء دون أن يطلب، فقد اعتاد على طلباته منذ مدة.


أخذ يتفحص الوجوه من حوله، خاصةً وجوه النساء، لكنه لم يجد بينهن من تثير اهتمامه؛ إذ رآهن جميعاً من سمار الملاهي والعلب الليلية، كما كان يعتقد.


ومع شروق الشمس، دبت الحياة في المدينة، وامتلأ المقهى برواده من الرجال والنساء. عندها بدأ البشير محاولاته المعتادة في معاكسة "حواء" ومحاولة استضافتها لشرب القهوة أو أي مشروب آخر، غير مكترث بعمرها أو وضعها الاجتماعي أو لونها أو لغتها.


غير أنه، وكما في كل مرة، كان يواجه بالصدّ، السخرية، والشتائم. لكنه لم يكن يعبأ بشيء من ذلك، فالمهم عنده أن يجد من يشاركه الوقت والحديث والضحك، ولو بمقابل، كي لا يستسلم لذكرياته المؤلمة عن زوجته وأبنائه الذين فقدهم جميعاً في حادث سيارة مروع، حين كان ابنه البكر "سالم" يقود السيارة وفقد السيطرة عليها بعد انفجار العجلة الأمامية. ضغط سالم على المكابح - وهو أكبر خطأ في مثل هذه الحالة - فانقلبت السيارة واصطدمت بشاحنة مسرعة في الاتجاه المعاكس، فماتوا جميعاً في الحال (سالم، أمه، فاطمة، وعبد الملك) .


وفجأة، ابتسمت له إحداهن. صافحته، جذبت كرسياً وجلست بجانبه، مسكت ذراعه، غمزته وضحكت، ثم قالت بصوت حنون ونبرة لينة، وهي في الأربعينات من عمرها، جميلة، سوداء الشعر والعينين، رشيقة القوام، طيبة الروح في الظاهر، عطرة الروائح ،بيضاء الأسنان عكسه هو :


- أنا هاجر، هل تستضيفني لأشاركك قهوتك وبعض الماء؟


- (مبتهجاً، لا يكاد يصدق نفسه) أنا البشير، يطلقون عليّ "بشرة"، يمكنك مناداتي بها. (يمسح عرق جبينه) اطْلبي ما تشائين، على الرحب والسعة.


- (متصنعة الضحكة والقبول) ربنا يبارك فيك يا بشرة الأنيق. (ثم قبّلت جبينه بخفة)


تواصلا في الحديث، تبادلا وجهات النظر والنكات، وهاجر تطلب المشروبات والمأكولات توالياً بلا توقف، وكأن الموت ينتظرها خارجاً ليحرمها من كل شيء بعد قليل.


أما البشير، فظل سارحاً، شارد الذهن كلما بدرت منها تصرفات غريبة - وما أكثرها -، يتذكر زوجته الراحلة، وكيف كانت خلوقة، رصينة، لا تطلب شيئاً حين ترافقه إلى مثل هذه الأماكن في أيام الخطوبة. كانت تنصحه بالحكمة، التريث، حسن التدبير وترشيد المصاريف، تكره التبذير، وتكره رفع الصوت أو التصنع.


وبينما هما كذلك، وقد انتصف النهار، تغيرت ملامح هاجر فجأة. نهضت بسرعة، أمسكت بكوب ماء بارد وسكبته على وجه البشير بفظاعة، وهي تصرخ قائلة:


"استحِ أيها المتصابي! سمحت لك بالجلوس لبعض الوقت، لكنك تجاوزت حدودك، غازلتني، وحاولت لمسي..." 


ثم استدارت إلى رجل ضخم، قوي البنية، طويل القامة، عابس الوجه، وقالت له وهي تشير إلى البشير:


"هذا العجوز الحقير ضايقني، اقتص لي منه!" 


فما كان من الرجل إلا أن أمسك البشير من رقبته، رفعه إلى الأعلى بسهولة، وفي تلك اللحظة كانت هاجر قد سرقت محفظته وهاتفه، وهربت من المقهى.


انهال الرجل على البشير بالضرب، صفعه ولكمه، وأقسم أنه سيقتله إن حاول أحد إنقاذه، وسط ذهول الحاضرين الذين تجمهروا لكنهم لم يجرؤوا على التدخل.


ولم تمر لحظات حتى تلقى المعتدي ضربة قوية على رأسه من أحد الجالسين، فسقط مغشياً عليه وسط صرخات الناس، بينما هرعت الشرطة إلى المكان بعد الإبلاغ عن الحادثة.


تم فض النزاع، واستخلص صاحب المقهى ثمن ما استهلكه البشير من باقي الحضور، بعد أن وجدوه مفلساً إثر السرقة، وشهد أحدهم على تفاصيل ما حدث.


نُقل المصابان إلى المستشفى، ثم إلى التحقيق، وعُرضا لاحقاً على المحكمة بناء على شكوى صاحب المقهى. وأظهرت التحقيقات أن المعتدي وهاجر ينتميان إلى عصابة متخصصة في الاحتيال، والسرقة، والاعتداء بالعنف على رواد الأماكن العامة، خاصة من الرجال المسنين، وقد حلا بهذا المقهى لأول مرة بعدما اعتادا النشاط في محلات أخرى بالمدينة الكبرى، وهما مفتش عنهما منذ مدة في قضايا مماثلة.


برأت المحكمة البشير، وأُدين المعتدي وسُجن، بينما بقيت هاجر في حالة فرار.


أما البشير، فقد اعتزل الناس دفعة واحدة، مكث في بيته لا يغادره، وتولى أحد الجيران قضاء شؤونه الحياتية اليومية. تاب توبة نصوحة، حتى وافته المنية ذات يوم، فرفع الخالق أمانته، بعد أن دفع ثمناً غالياً لتصابي السبعين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء