الصورة الشعرية في الشعر العربي بين التقليد والتجديد/عبد الحميد ديوان

 الصورة الفنية في الشعر العربي

بين التقليد والتجديد

في بداية بحثنا عن الصورة الفنية في الشعر العربي يتبادر إلى الذهن أولاً سؤال كبير هو ما هي الصورة الفنية للشعر وما اهميتها في بناء القصيدة.

والجواب عندنا هو أن الصورة الفنية في الشعر هي أسلوب في التعبير تتجاوز فيه اللغة أغراضها الوظيفية إلى غايات جمالية يصوغها الشاعر من نسج الخيال ومعطيات الواقع ليؤثر في السامع مشكلاً صورة جمالية لواقع معاش.

أما أهمية الصورة فإنها تعتبر الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الفني للقصيدة، لأنها مفتاح التعبير عن مكنونات النفس لدى الشاعر وبوحه الشعري الذي يقدمه للقارئ، ومن أهم مزاياها أنها تضفي على المعنى الوضوح وحرارة التعبير، كما أنها تزيد القدرة على التأثير في نفسية السامع، وتمنحه شعوراً بالاستمتاع، بالإضافة إلى أنها تزين القصيدة بجماليتها وتميزها من التعبير النثري المباشر.

ولقد حظيت الصورة الشعرية بالاهتمام منذ بداية الشعر، لأن الشعر مبني أصلاً على الصورة، وقد أكد الناقد إحسان عباس في كتابه (تاريخ النقد الأدبي) أن الشعراء قد استخدموا الصورة الشعرية منذ البداية إذ قال:

"وليست الصورة شيئاً جديداً، فإن الشعر قائم على الصورة منذ وجد إلى اليوم، ولكن استخدام الصورة يختلف من شاعر إلى آخر، كما ان الشعر الحديث يختلف عن الشعر القديم في طريقة استخدامه للصورة".

ولو عدنا إلى بدايات الشعر لوجدنا أن كثيراً من النقاد تناول مصطلح الصورة الشعرية باعتباره الأساس في بناء القصيدة.

ويحضرنا في البداية اللفتات النقدية الأولى التي كان الشعراء يطلقونها عندما يتنقدون قصائد شعراء آخرين كما كان يفعل النابغة في خيمته الشهيرة في سوق عكاظ عندما كان يحكم بين الشعراء فينقد الشعراء ويميز بعضهم عن بعض بما يراه من استخدام للأساليب الأدبية والصور التي يقدمونها في شعرهم، ويحضرنا الحادثة الشهيرة التي حصلت مع حسان بن ثابت عندما استمع النابغة إلى الأعشى ثم سمع شعراء آخرين وانتهى قبل حسان إلى الخنساء التي أنشدته:

وإن صخراً لتأتمّ الهداة به

 كأنه علم في رأسه نار


فقال لها: والله لولا أن أبا بصير (ويقصد الأعشى) أنشدني آنفاً لقلت أنك أشعر الجن والأنس. فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك، فقال النابغة يابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

خطا طيف حُجنٍ في حبالٍ متينةٍ

 وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

تمد بها أيدٍ إليك نوازع


فخنس حسان لقوله.

وفي رواية أخرى أنه لما غضب حسان وقال له: أنا أشعر منك ومن أبيك. قال له النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال حيث أقول

لنا الجفنات الغُرّ يلمعن بالضحى

ولدنا بني العنقاء وابني مُحُرِّقٍ

 وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما


فقال له النابغة: أنت شاعر ولكنك أقللت أجفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.

ومن خلال هذا الموقف نكتشف أن الرؤية النقدية للشعر وتفاصيله اللغوية والصورية كانت موجودة عند الشعراء منذ البداية.

فالنابغة ينتقد حسان لأنه جعل الصورة الأولى في البيت الأول باهتة وبسيطة بقوله (الجفنات) في موقع الكثرة باستخدامه للفظةٍ فيها من التقليل ما يجعل الصورة ضعيفة سطحية.

وهكذا نجد أن الصورة الشعرية كانت المطلب الأساسي عند الشعراء والأدباء بشكل عام.

وننتقل إلى العصر العباسي فنجد الجاحظ في طليعة الأدباء الذين تحدثوا عن الصورة في الشعر وأنها الأهم في البناء الشعري إذ يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وكثرة الماء (ويقصد المعنى) وفي صحة الطبع والسبك (أي البناء الشعري) فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسيج، وجنس من التصوير".

وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يبين لنا كيف أن الشعر ضرب من التصوير، فإن بالإمكان أن نتعرف على دلالات مصطلح (التصوير) كما قصده الجاحظ:

الدلالة الأولى تعتمد على مبدأ صياغة الأفكار التي تعمل على التأثير واستحالة المتلقي نحو سلوك معين .

والدلالة الثانية تعتمد مبدأ التجسيم أو التقديم الحسي للمعنى كما نرى في قصائد الشعراء منذ العصر الجاهلي وكقول امرئ القيس يصف طول الليل:

وليل كموج البحر أرض سدوله

فقلت له لما تمطى بصلبه

ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي

فيالك من ليل كأن نجومه

 عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

بكل مغار الفتل شُدّت بيذبل


فقد جسد طول الليل الذي ينبئ عن تراكم همومه بموج البحر المتكرر وبالناقة تتمدد فوق الرمال تارة وبخيمة مشدودة الأطراف إلى النجوم تارة أخرى .

والدلالة الثالثة هي مبدأ التأثير والاستمالة والإشارة، إذ أن التقديم الحسي للمعنى كما رأينا في أبيات امرئ القيس يجعل الشعر مماثلاً لفن الرسم ومشابهاً له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير في المتلقي، وإن اختلفا في المادة التي يبنى عليها كل منهما.

ويبدو أن الجاحظ عند طرح فكرة التصوير كان يريد ان يطرح فكرة تقديم المعنى الحسي وتشكيله على نحو تصويري، وبهذا الشكل يمكننا أن نعتبر أن مفهوم التصوير عند الجاحظ شكل المرحلة الأولية لتحديد دلالة المصطلح (الصورة) خاصة وأن الجاحظ يربط المصطلح بنصوص وشواهد توضح مضمونه وفحواه.

ويقترب من هذا الفهم للصورة موقف قدامة بن جعفر عندما يناقش قضية اللفظ والمعنى فيقول (إن المعاني كلها مُعَرّضة للشاعر وله أن يتكلم فيها كيفما أحب وآثر، من غير أن يحضر عليه معنى يروم الكلام فيه. إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة).

وهكذا فقد جعل قدامة الشعر صورة للمعاني، فالمعاني كالمادة الخام للشعر، ومقدرة الشاعر الحاذق تبرز في اللفظ والشكل لا في المعنى والفكرة، وبهذا الشكل فإنه ينحاز إلى الشكل مهملاً المضمون فالشكل عنده أساس العمل الفني في الشعر وذلك لأن قدامة كان متأثراً بالمنطق والفلسفة اليونانية التي تتخذ من الشكل وسيلة لتشكيل المادة وصوغها.

أما القاضي الجرجاني فإنه يربط الصورة بروابط شعورية تصلها بالنفس، وتمزجها بالقلب، وأكد على ذلك عندما دافع عن شعر المتنبي بقوله:" وإنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كلّ مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم- وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكّرت لهذه المزية سبباً،، ولما خُصّت به مقتضى".

ومع أن القاضي الجرجاني ربط لفظ الصورة بوشائج شعورية تصلها بالنفس، وتمزجها بالقلب، ولكنه لم يحددها أو يصف جوانبها، فبقي الأمر لديه مجرد إحساس لا أكثر، إلى أن جاء عبدالقاهر الجرجاني فبين مفهوم الصورة بشكله الذي نعرفه الآن وربط هذا المفهوم بنظريته المعروفة (نظرية النظم).

لقد نظر عبدالقاهر الجرجاني إلى الشعر على أنه مبنى ومعنى ينتظمان في الصورة لا يسبق احدهما الآخر يقول عبدالقاهر: ( واعلم أن قولنا (الصورة) إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان بين انسان وانسان وفرس وفرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان بين خاتم وخاتم، وسوار و سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا، وفرقاً عبّرنا عن ذلك الفرق، وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: "وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير".

والذي نستخلصه من هذا الكلام الذي قاله عبد القاهر بعد أن أقرّ أن لفظ الصورة جاء قبله واستعمله الجاحظ وقدامة وغيرهم ولم يكن من ابتداعه. نستخلص أن الصورة تمثيل وقياس، فإذا كان الاختلاف بين الصور، فمناط الفضيلة في الكلام يرجع إلى الصورة التي يرسمها النظم.

ويبدو أن فكرة التصوير عند عبد القاهر نالت قسطاً أوفر في كتابه (أسرار البلاغة) إذ ستغدو محور فكرته النقدية التي تبناها لتحليل الصورة البيانية وبيان مكانتها في الشعر خاصة ودورها في التأثير النفسي.

لقد أقام عبد القاهر موازنة بين عمل الشاعر وعمل الرسام في كيفية تشكيل مادتيهما، وطريقتهما في إثارة المتلقي، فلاحظ أن كليهما يهدف إلى إحداث التآزر والتآلف بين عناصر مادتهما، فالشاعر يحدث هذا عن طريق أحرفه وكلامه في القصيدة، أما الرسام فيحدث عن طريق ألوانه وخطوطه على اللوحة، كما لاحظ أن كلاً منهما يحدث تاثيراً خاصاً في نفوس المتلقين، ويوقع المحاكيات في أوهامهم وحواسهم بطريقة تجعلهم ينفعلون أشد الانفعال بطريقته الحسية في القديم ونجاحه في صياغة مادته.

إن لجوء عبد القاهر في كتابه (أسرار البلاغة) إلى المقابلة بين الشعر والرسم جعله يركز على الجانب البصري في التصوير الشعري، وبهذا يكون قد اقترب من طروحات الفلاسفة المسلمين الذين رأوا في الشعر بما يقوم عليه من تخييل. يقول (إنه تمثيل المخيلة المتلقي مشاهد بصرية واضحة، وإن أفضل الوصف الشعري هو ما قلب السمع، وجعل المتلقي يتمثل مشهداً منظوراً كأنه يراه ويعانيه".

إن الصورة الفنية إنما تأتي نتاج خيالٍ مبدع وديناميكية فعالة لذلك الخيال، ولكنها لا تحاكي الواقع بشكل مطلق وإنما تبدع وتبتكر الصور الخلاقة للمشهد الذي تريده، وهي تبرز في تشكلها علاقات جديدة بين عناصر متضادة أو متنافرة أو متباعدة، وعلى هذا الأساس لا يمكننا قصر الصورة الفنية في الأنماط البصرية فقط، بل إنها تتجاوز هذا إلى إنارة صور لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها الإدراك الإنساني ذاته.

كل ذلك ظهر من خلال نظرية عبدالقاهر الجرجاني المعروفة بـ(النظم) وامتد تأثيرها خلال قرنين من الزمن. إلا أنها خبت في زمن السكاكي الذي أعاد البلاغة إلى قوالب منطقية ثابتة متحجرة اعتمد فيها على أركان منطقية ملزمة لها.

فبتنا نرى الصورة الشعرية عبارة عن تشكيل منطقي يعتمد على قواعد ثابتة كأركان أساسية لبناء الصورة، وبذلك بدا الاهتمام بالشكل وأهمل الأساس والذي هو المضمون الإبداعي للصورة (الخيال) والإيحاء.

وأصبحت الصورة عبارة عن قواعد جامدة تقسم إلى مشبه ومشبه به ووجه شبه وأداة تشبيه والصورة المحنطة تدور في فلك هذه الأركان فتارة نجد التشبيه بأشكاله المتعددة من تشبيه تام مثل (زيد كالأسد في قوته) وتشبيه ناقص بشكليه المجمل والضمني وتشبيه بليغ إلى استعارة. يقول الشاعر:

فأمطرت لؤلؤا من شرجس وسقت

 ورداً وعضت على العناب بالبرد


فاستعار الشاعر لؤلؤاً للتعبير عن الدموع وللشفتين بالعناب.

هذه الصورة الاستعارية كما رآها السكاكي هي في حقيقتها صورة بيانية من أجمل الصور التعبيرية في الشعر ولكن القواعد التي فرضها السكاكي جعلتها في وضع مقيد لا ينظر إلى الصورة بمحتوياتها الفنية بل إلى أركان الاستعارة الظاهرة فقط.

وبقي هذا الأمر مستمراً في جموده إلى بداية العصر الحاضر عندما بدأ الاحتكاك بالغرب من خلال البعثات التي أرسلت إلى أوربا في عهد محمد علي باشا والتي جلبت معها الثقافة الغربية: وبدأت نهضة أدبية جديدة كانت بدايتها العودة إلى الشعر العربي الأصيل على يد الشاعر محمود سامي البارودي الذي خلّص الشعر من ركاكته التي سيطرت عليه في الفترة المملوكية والعثمانية، وبدأنا نشهد تجديداً للشعر فيما سمي بالمدرسة الاتباعية التي كانت تسير في صياغة شعرها على منهج القدماء والتي كانت تهتم بصياغة القصائد مستمدة عناصرها من البيئة التي تنقلها بأحاسيسهم إلى صور شعرية كانت تجسيداً للطبيعة المحسوسة، ولذلك فإنها اتصفت بأن صورها كانت تقليدية لا تجسد أحاسيس الشاعر إلا من خلال صور تقليدية تستخدم فيها البلاغة التقليدية بكل عناصرها فهذا شوقي مثلاً يصف قتالاً جرى في معركة من معارك الجيش المصري فيشبه المقاتلين العرب بالأسود الضاربة وهي تهجم على فرائسها:

كأنا أسود ضاريات كأنهم

 قطيع بأقصى السهل حيرانُ مذئب


ويقول في النضال من أجل الحرية:

وللحرية الحمراء باب

 بكل يد مضرجة يدق


ولو نظرنا إلى الصورتين اللتين ترتسمان في البيتين السابقين لوجدنا أنهما قاصرتان عن إيصال الأحاسيس الداخلية التي تشتعل في قلب الشاعر إلى المتلقي، ولذلك بقي أصحاب هذه المدرسة مأسورين للصور التقليدية في الشعر لا يفارقونها.

ثم انتشرت مدرسة أدبية أخرى في فترة الخمسينات من القرن العشرين عرفت باسم المدرسة الإبداعية وهي التي تعتمد على الإحساس الداخلي أساساً في رسم الصورة الشعرية، فلقد تميزت الصورة عند الشعراء الإبداعيين بمميزات خاصة جعلتها صورة جديدة في نسجها وتكوينها ووظيفتها تختلف عن الصورة القديمة التي كان شعراء المرحلة الإتباعية ينظرون إليها.

إذ ثار الإبداعيون على الشكل التقليدي لرسم الصورة الفنية في الشعر وراحوا يبدعون صوراً جديدة مبتكرة تناسب العصر الجديد والبيئة الثقافية المتأثرة بالثقافة الغربية.

ومن أهم ملامح الصورة الجديدة كانت التأثير في السامع. فالصورة أصبحت وسيلة للتعبير عن عالم الشاعر الداخلي وما يحمل في نفسه من تشاؤم وكآبة وألم وحيرة ويأس نتيجة نظرته إلى الصعوبات التي كانت تتزاحم في حياته فراح ينقل هذا الإحساس إلى قصيدته ليؤثر في السامع وينقل إليه تجربته الانفعالية.

إن الصورة الإبداعية لا تقدم صوراً جاهزة بأوصاف دقيقة بل هي بؤرة تشع بالدلالات النفسية والاجتماعية التي تنقلها إلينا فتثير في نفس القارئ مختلف الظلال والإيحاءات.وتفجر الشعور وتطلقه إلى ما وراء الأشكال الظاهرية في الصورة، وغالباً ما نرى التصوير عند الإبداعيين صدى للحالة النفسية التي يعيشها الشاعر.

انظر إلى الشاعر إبراهيم ناجي وهو يرسم بريشته آلامه على صفحات قصيدته يقول:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

اسقني واشرب على أطلاله

كيف ذاك الحب أمسى خبراً

لست أنساك وقد أغريتني

ويدٍ تمتد نحوي كَيَدٍ

وبريق يظمأ الساري له

 كان صرحاً من خيال فهوى

واروِ عَنّي طالما الدمع روى

وحديثاً من أحاديث الجوى

بفم عذب المناجاة رقيق

من خلال الموج مدت لغريق

أين في عينيك ذيّاك البريق


فالشاعر هنا يحكي ألمه لفراق أحبته وزوال ذاك الحلم الذي كان يعيش فيه.لقد أمسى حبه خبراً من الماضي أحرق مهجته وألهب قلبه بسعير الفراق. إنها صور إيحائية فجرت مشاعره وألقت به في وهدة الألم.

وشعر الإبداعيين يتصف بالأشجان والوحدة الفكرية فالقصيدة يسودها جو تعبيري واحد، والصورة الأساسية هي التي يبنى عليها بقية الصور الجزئية التي تُتَمّم بنية المشهد الدرامي في الصورة الشعرية وتخلق جواً نفسياً متكاملاً تجعل القصيدة في مجملها ذات طابع واحد مليئ بالحزن والكآبة وهذا ما اتصف به الإبداعيون بشكل عام.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الإبداعيين ينظرون إلى الكون من خلال منظارهم النفسي الخاص، فإذا كان حزيناً رأيت المشهد كله معتماً حزيناً، وإذا كان مبتهجاً جعل المشهد يضج بالفرح والبهجة، وهنا ما نسميه بالاندماج والتوحد مع الطبيعة.

كما أنهم يعمدون إلى إبراز النواحي المعنوية المجردة بقالب محسوس مجسد ويعمدون إلى بعث الحياة في الأشياء الجامدة والمعنوية فإذا بها تتكلم وتحس وتشعر.

هذا الشاعر علي محمود طه يخاطب النيل في قصيدة الجندول فيجعل النهر يحدثه بتاريخه وما مر عليه من أيام سعيدة وقصص الحب التي كانت تجري فوق أمواجه بالجندول:

أين من عينيّ هاتيك المجالي

أين عشاقك سمار الليالي

موكب الغيد وعيد الكرنفال

 يا عروس البحر يا حلم الخيال

أين من واديك يا مهد الجمال

وسرى الجندول في عرض القنال


بين كأس يتشهى الكرم خمره

وحبيب يتمنى الكأس ثغره

التقت عيني به أول مره

فعرفت الحب من أول نظره

أين من عينيّ هاتيك المجالي    يا عروس البحر يا حلم الخيال

مرَّ بي مستضحكاً في قرب ساقي        يمزج الراح بأقداح رقاق

قد قصدناه على غير اتفاق    فنظرنا وابتسمنا للتلاقي

وهو يستهدي على المفرق زهره

ويسوي بيد الفتنة شعره

حين مست شفتي أول قطره

خلته ذوب في كأسي عطره

وتأتي الصورة الشعرية أيضاً عند الإبداعيين مركبة ومعقده وممتدة، وتشكل مع غيرها مجموعة متآلفة تكوِّن صورةً إجمالية تشبه اللوحة الفنية، ومن هنا يأتي الترابط العضوي المتين بين أبيات القصيدة أو المقطع لأنها تنبع من معين واحد وتؤلف بينها تجربة انفعالية نابعة من أعماق الشاعر.

وأخيراً فإن الإبداعيين يعتمدون في رسم الصورة الشعرية على الأصوات والألوان والشكل والملمس والحركة فتصبح في مجموعها وسائل تعبير تحمل الرمز والإيحاء بكل تفاصيله.

والشاعر يستمد هذه العناصر من الطبيعة التي يحييها ويرتاح في أحضانها فيبادلها أحاسيسه ومشاعره.

يقول الشاعر خليل مطران واصفاً آلامه وهو يقف أمام البحر ساعة الغروب مخاطباً إياه.

شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري

ثاو على صخرِ أصمَّ وليت لي

يا للغروب ومابه من عَبرةٍ

والشمس في شفق يسيل نضاره

مرت خلال غمامتين تَحَدُّراً

فكأن آخر دمعة للكون

وكأنني آنستُ يومي زائلاً

 فيجيبني برياحه الهوجاء

قلباً كهذي الصخرة الصمّاء

للمستهام وعِبْرَةٍ للرائي

فوق العقيق على ذرى سوداء

فتقطرت كالدمعة الحمراء

قد مزجت بآخر أدمعي لرثائي

فرأيت في المرآة كيف مسائي


هذه القصيدة ترسم لنا أنموذجاً واضحاً ومتكاملاً للتصوير الفني الذي يقدمه لنا الشعر الإبداعي، فنحن أمام لوحة معبرة تمتزج فيها صورة الألم بصورة الطبيعة امتزاجاً ينم عن انسجام بين خطوطها، ففيها يجلس الشاعر على الشاطئ أمام البحر ساعة الغروب يراقب البحر شارحاً له همه فيجيبه باضطراب أمواجه، مشاركاً إياه حزنه وألمه لفراق احبته، كما أن الشمس في غروبها وهي تودع الكون كأنما تخلق نوعاً من التوازن بينها وبين نفسه التي يطحنها الألم، فيرى في غروبها تمثيل لغروب حياته.

إن الشاعر هنا يسبغ إحساسه على الطبيعة فيراها مرآة لنفسه الحزينة.

ومع تطور الحدث الشعري نجد عناصر أخرى قد دخلت على ميدان الشعر وعوامل جديدة جعلت الصور الشعرية تتطور، وقد ساعد على تجددها وتطورها مجموعة من العوامل أهمها:

1- تطور النقد الأدبي، وشيوع نظرياته الحديثة التي سادت في ساحة الأدب في الوطن العربي ويمكننا حصر اتجاهات النقاد العرب المحدثين حول مفهومهم للصورة في ثلاثة اتجاهات هي:

أولاً: اتجاه تبنى طروحات النقاد الأوربيين ونفى عن العرب معرفتهم للصورة الفنية، إذ التفت بعضهم إلى النقد الغربي، واقتبس منه الكثير من الدراسات، وراح  يطبق ما نهل من معارف وأفكار على نصوص شعرية قديمة، فتراءت له صور المرأة رمزاً للشمس المعبودة عند الأقدمين وصورة الثور الوحشي رمزاً للمعبود القمر، وهذا الذي اعتنقه كل من الدكتور علي بطل في كتابه (الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها)، وكذلك نصرت عبدالرحمن في كتابه (الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث)، ولم يبتعد عن ذلك الدكتور مصطفى ناصيف والدكتور نعيم اليافي في اعتمادهما على النقد الأوربي وتبني طروحاته في حقل الصورة. بيد أن مصطفى ناصف يرى) أن (مصطلح الاستعارة أهدى من مصطلح الصورة وأن كلمة (صورة) تستعمل للدلالة على كل ماله صلة بالتعبير الحسي، وتطلق في بعض الأحيان مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، وذلك أن لفظ (الاستعارة) إذا أحسن إدراكه قد يكون أهدى من لفظ (الصورة) وأن (الصورة) إن جاز  الحديث المفرد عنها لن تستقل بحالٍ عن الإدراك الاستعاري) وبذلك نرى أنه بهذا التعريف قد ابتعد عن التوصيف الغربي للصورة بتفضيله مصطلح الاستعارة.

ثانياً: اتجاه يتشبث بالقديم ويعلي من شأنه، وهو بذلك لا يلتفت إلا لما أفرزه العربي القديم من أفكار ونظريات، ويمثل هذا الاتجاه الدكتور (كمال حسن البصير) بكتابه (بناء الصورة الفنية في البيان العربي).

ثالثاً: واتجاه أخير معتدل قرأ بعين الناقد البصير فأقر فضل القديم وأظهر ميزة الجديد الملائم ووضحه، ومن هؤلاء الأستاذ علي إبراهيم، بو زيد في كتاب (الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي) وجابر عصفور في (الصورة الفنية في التراث العربي القديم).

ولقد تطورت في هذه المرحلة الدراسات النفسية والجمالية التي عمقت معرفة الأدباء بوظائف الصورة وانتشرت الدراسات الفنية والجمالية، كما شاعت نظريات المدارس الفنية الحديثة متأثرة كما شهدنا بأشهر أعلام الأدباء الغربيين.

والحق أن فهم الصورة المتجددة في الشعر الحديث يحتاج إلى فهم الشعر وتذوقه، وفهم خصائص صوره لأن الشعر الحديث يهتم بالصورة الفنية اهتماماً كبيراً.

وإذا ما تبصرنا جيداً في طبيعة الصورة الفنية الحديثة يمكننا إجمال مميزاتها بما يلي:

الميزة الأولى تتلخص:

1- بالتلازم الشديد بين اللغة والصورة والفكرة والانفعال بها لأن الفكرة تلازم الصورة، والصورة تحتمل الفكرة، والانفعال يتجسد بالصورة لأن الصورة تنبض بالانفعال وعلى هذا فإن الشعر الحديث كما نراه بناء فني قوامه الصورة.

يقول الشاعر بدر شاكر السياب:

وكان يطوف من جدي

مع المد

هتاف يملأ الشطآن:

يا ودياننا ثوري

ويا هذا الدم الباقي على الأجيال

يا إرث الجماهير

تَشَظّ الآن، واسحق هذه الأغلال

وكالزلزال

تحدَّ النير أو فاسحقه واسحقنا مع النير..

فالجَدُّ هنا رمز للأصالة القومية، والمدُّ انبعاث لهذه القومية مع فجر الثورة، والدم الباقي رمز لانطلاق الوقدة القومية المتأججة، وإرث الجماهير: هو الرسالة القومية.

وهكذا فالصور الموجودة في القصيدة تجسد في مجموعها الفكر القومي، وتزيد في الانفعال الشعري، وتجعله يتفجر في كل صورة، فالهتاف يتعالى، ويعم أرجاء الوطن العربي مفجراً ثورة تسحق الظالمين وهذه الصور يكاد الانفعال يتفجر من خلالها، وهو إلى ذلك يوقظ العاطفة القومية، وروح النقمة والثورة. ومن خلال هذه الصور يتكامل النص ليخرج وحدة متكاملة في الفكر والعاطفة واللغة.

2- والميزة الثانية تتجلى بالجدة والمفاجأة والدهشة، فالجدة ماثلة بالصور المتجددة والتي نراها لأول مرة وبذلك تفاجئنا أما الدهشة فإنها تحدث عندما نرى الصور المبتكرة الجديدة التي لا تنزع إلى التقليد، يقول نزار قباني:

لو خرج المارد من قمقمه، وقال لي: لبيك

دقيقة واحدة لديك

تختار فيها كل ما تريد من قطع الياقوت والزمرد

لاخترت عينيكِ بلا تردد

لقد جمع نزار في هذا المقطع كل مستلزمات الجدة والدهشة بكل أبعادها.

3- والميزة الثالثة تتمثل في التوالد والتكاثر.

إن الصور تمتد وتتداعى وتتكاثر في الشعر الحديث، لتشكل جواً نفسياً ينتظمه شعور واحد.

يقول الشاعر محمود درويش مخاطباً حبيبته (فلسطين)

من رموش العين سوف أخيط منديلا

وأنقش فوقه شِعراً لعينيك

واسماً حين أسقيه فؤاداً ذاب ترتيلا

يمدّ عرائش الأيكِ

سأكتب جملةً أعلى من الشهداء والقبل

فلسطينيةً كانت ولم تزلِ

إننا نجد في هذا المقطع الرمزي الذي يرتله محمود درويش شعراً واحداً ينظمه إحساس عميق بالحب لحبيبته (فلسطين) وقد عبّر عنه الشاعر كما رأينا بصور متلاحقة مترابطة.

4- أما الميزة الرابعة فإنها تتحلى بالاختصار في التعبير إذ لا حاجة للتطويل في الشرح والإيجاز والتكثيف الصوري.

فهو يقدم أفكاره بكلمات قليلة تبرز الصورة الشعرية من خلال هذه الأفكار الكثير من المعاني، فلنستمع إلى الشاعر الفلسطيني سالم جبران يعبر عن تصميمه على التضحية والفداء فيختصر كل الصور في صورة واحدة:

يمكنكم أن تقلعوا الشجر

من جبل في قريتي

يعانق القمر

يمكنكم أن تحرثوا كل بيوت قريتي

فلا يظل بعدها أثر

لكنكم لن تخنقوا لحني

لأني عاشق الأرض

أغني الريح والمطر

هذه الصورة الشعرية التي بدت في قوله: (لكنكم لن تخنقوا لحني) اختصرت وكثفت كل التجربة الشعورية التي أراد الشاعر أن يعبر عنها.

5- الإيحاء: إن التصوير الذي يقدمه الشاعر من خلال قصيدته يتجاوز ظاهر اللفظ إلى إيحاءات كثيرة، فلننظر إلى كلمة الزلزال في قصيدة السياب (أنشودة المطر) والتي يقول فيها- تشظ الآن، واسحق هذه الأغلال.

وكالزلزال

تحدَّ النير أو فاسحقه واسحقنا مع النّيرِ

هي في الظاهر مع استخدام الكاف فيها تعتبر تشبيها في عرف البلاغة التقليدية، إلا أنها برزت هنا كصورة توحي بمعانٍ كثيرة كـ(الهزّة العنيفة والتدمير والامتداد والشمول وغير ذلك.

6- الرمز: وهذه الميزة الجديدة تستخدم فيها الصورة في الشعر الحديث وسيلة للإشارة والإيحاء والرمز الذي يخبئ ضمنه معاني كثيرة، وقد يستمد الرمز من أمور كثيرة كالطبيعة أو التاريخ أو الأسطورة وغير ذلك.

والشاعر هنا يكثف أفكاره ومشاعره بالرمز، وبه يُشَخِّص تجربته الشعورية وبالوصول إلى مفاتيح الرمز يمكن للقارئ أن يكتشف مغاليق القصيدة.

7- الغموض: وهو ظاهرة تلازم معظم صور الشعر الحديث، ويمكن ان نقول إن بعض الغموض أمر مستحب أما إذا تجاوز الغموض الحد الذي لا يستطيع القارئ فك رموزه تصبح القصيدة عند ذلك صعبة الفهم ومغلقة.

ولعل سبب الغموض يأتي من غموض النفس الشاعرة ذاتها، لذلك يلغي الشاعر العلاقات المنطقية ليضع صورة رمزية تعبر عن تجربته بطريقة الإيحاء والتلميح، ولا بد من معرفة موضوع القصيدة ومناسبتها، والوقوف على الظروف التي تحيط بالشاعر من أجل الدخول إلى عالم القصيدة وفهمها.

ونعود إلى التساؤل الذي لا زال يطرق أفكارنا بعنف، أين مفهوم الصورة في البلاغة العربية مما عرفنا فيما عرضناه من أفكار ومزايا اتصف بها شعرنا الحديث، وهل هو نقل كامل لما جاءنا من مصطلحات غربية أخذنا بها وتركنا كل ما عرفناه من بلاغتنا.

الحقيقة تقول إن مصطلح الصورة الفنية بكل مقوماتها عرفه العرب قبل أن يفتح الغرب عيونه على الثقافة بزمن بعيد.

إن عبدالقاهر الجرجاني على الرغم من تركيزه فيما تحدث به عن الصورة وما تحدثه في إحساسات المتلقي وخيالاته، وكذلك تركيزه على بيان طبيعة الصورة الفنية كان جهداً عظيماً هو الذي ترك أثره في بلاغتنا إلى الوقت الحاضر.

إن بلاغة الصورة الفنية المعاصرة ما هي في حقيقتها إلا امتداد لبلاغة الجرجاني وبيانه 


د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء