الغائب / د. عبد الحميد ديوان

الغائب
 د. عبد الحميد ديوان
أدخل سعيد يده في جيبه بنزق وهو ينظر إلى اعلان يشد الانتباه لما يتضمن من اغراء مبتذل . . وتابع سيره العنيف العصبي وهو يقطب ما بين حاجبيه هذه هي المرة العاشرة التي يشعر فيها أن كرامته قد أهينت وأنه لم يعد يطيق الصبر على ما يرى ويسمع لم تعد تجدي نفعاً أساليب الحديث الرقيقة الناعمة , ولم يعد يرى في حديث العقل فائدة لإصلاح السيء .. خانته قواه هذه المرة أيضاً ولم يتصرف بما عاهد عليه نفسه به قبل بدء الخلاف . . يا لصعفه المقيت . . وتطايرت أمامه علبة من صفيح تشكو ألماً من جنبها وكأنها أفرغ فيها همة المحاصر منذ بعيد . . ليتني ما عرفتك يوما يا ابنة الـ . . . وتدارك نفسه قبل اطلاق قذيفة من السباب تسحق صورتها من ذاكرته 
- عفواً لا تؤاخذني . . .  
- لا بأس . . ولكن انتبه قليلاً ربما صدمك حائط في المرة القادمة 
- عفواً مرة أخرى أرجو أن تعذرني فقد شردت قليلاً في أثناء سيري 
أجاب الرجل الذي صدفه بكتفه صدمة هزت كيان الرجل وأفقدته توازنه وكاد من هول الصدمة يسقط أرضاً وسارع إلى الأخذ بيده وعلامات الخجل ترتسم فوق وجهه . 
وعاد إلى سيره العنيف مرة أخرى . . كانت أعصابه لا تزال مشتعلة يأكل بعضها بعضاً . . . وطرق سمعه صوت قادم من الزاوية المقابلة لمسيره 
في يوم من الايام كان لي قلب ويا المحبة هام وياريت ما حب 
أي والله صدق عبد الحليم . . ياريت ما حب . . هذه ويلات الحب أشكو منها أنا ويشكو منها عبد الحليم . . ويعلم الله كم يشكو منها أيضاً . . وعادت به ذاكرته . 
كان شعار لقائهما الحب . . كانت ايامهما ضحكة طروب يتغنى بها كلاهما . . و عندما ينظر إلى عينيها يجد فيهما ضوءاً قوياً ساحراً ينير ظلمة الحياة أمامه . . كان يشعر أنها حلمه الوردي الذي سيضفي على أيامه القادمة بلسماً يزهر حنينا ً وتورق جوانبه وروداً تملأ أفق حياتهما شذا وأريجاً ناعماً . . كان يرى فيها عمقه وانسانيته . . وتهادي صوتها من بعيد 
حبيبي كم أتمنى أن تحتوينا الدنيا معاً . 
- ولكنك تعلمين أنني لازلت في طور البناء 
  - ولو .. المهم أننا سنعيش ونستطيع أن نبني معاً 
- هل ستتحملين قسوة الحياة 
- طبعاً فالمحب تسهل عليه كل الأمور اذا كان مع حبيبه 
أسكرته تلك الكلمات التي نقلها اليه خياله عبر موجة من موجات الذكرى . . أين هو الحب 
. . أين هي التضحية التي أقنعته أنها ستبذلها من أجله ؟ ! . . لا يعلم كل ما يدركه أنها أصبحت وكأنها امرأة أخرى جاءت من عالم آخر . . 
ويؤكد عبد الحليم . . قسوة حبايبي مغلباني أوعى يا قلبي تحب تاني 
وهل يعقل أن يحب مرة أخرى . . مستحيل . . سيكون قد أصيب بس من الجنون ان فعل ذلك . . ألا يكفيه أنه قد نسي طعم الافطار في منزله من أثر هذا الحب . . لو كرر ذلك مرة أخرة فقد ينام وبطنه تمتلئ حباً لا أكثر . 
وتوقف مرة أخرى يتفحص الصفحات الطويلة المنشورة أمامه للعديد من الجرائد . . ومر نظره سريعاً على العناوين الرئيسية التي أنتصبت أمامه متحدية أن يتركها دونما اهتمام . . وانحنى قليلاً يقرأ عنواناً صغيراً في احدى الصحف القابعة أمامه . . ( رجل انتحر يأساً من حبيبته التي هجرته ) . . انتحر ! . . ياله من غبي وهل هناك امرأة في العالم تستحق أن يضحي الانسان في سبيلها . . حتى ولو بقشة صغيرة 
وتابع سيره المنفعل . . ولكن خطواته قد أصابها على ما يبدو والبرودة فقد ثقلت قدماه عن ذي قبل وبدأ يشعر بأنفاسه الطبيعية تعود إلى صدره بعد أن هربت منه . . ما معنى ذلك ونظر الى يديه عجباً لقد زالت الرجفة عنهما . . ما هذا . . ما الذي جعل أعصابه تهدأ هكذا . . لا . . لا لن يقبل أن يعود اليها ولو كلفه ذلك كل شيء . . لا يمكن له أن يعود الى جسم أصم يعيش معه . . 
وعاود سيره العنيف السريع . . انها لا تفقه معنى الحب . . ولن يكون لحياته معها استمرار لا يمكن له أن يقبل بفتات من الحياة تقدمه له عندما تريد . . 
وتساءل . . الى أين تريد أن تذهب . . ما مقصدك من هذه الرحله . . ما هو هدفك ولم يستطيع أن يرد على تلك التساؤلات طرحت همومه على أرض الألم فلم يعد يشعر بشيء . . وامتلكته ظلمة اليأس فانطلق هائماً لا يجد لنفسه هدفاً يحدده في سيرة الهارب . . 
- أتحبني ؟ . . قل أتحبني ؟ ! . . 
- وهل وجدت في غير ذلك . . هل كانت تصرفاتي توحي لك بغير ذلك 
- لا أدري . . المهم قل لي هل تحبني 
- طبعاً 
- بس 
- وماذا بعد . . 
- طبعاً ! .. هل تكفي هذه الاجابة . . ألا تسطيع أن تقول أكثر من طبعاً ! .. 
- طبعاً أحبك وكل ذرة من كياني يغمرها شوق المحبة إليك . . وأنت تعلمين ذلك . 
- أعلم . . ولكني أردت أن أتأكد من ذلك منك أنت بالذات 
- هل تأكدت 
- ليس بعد . . وضحكت ضحكة ممطوطة ثم أردفت 
- اذا كنت تحبني فعلاً فاكتب لي مهراً مناسباً 
ودهش لهذا الطلب الغريب ولكنه أجاب 
- مهراً . . وهل ترين أن مقياس حبي لك هو المال 
- لا . . ولكتني أريد ذلك . . واستدركت 
- حتى يعلم الناس جميعاً انك تحبني كثيراً . . 
وسكت . . هو يعلم جيداً أن الحديث معها لن يجدي نفعاً سيضطر الى تلبية الطلب . . . 
فقد تغضب وقد تخاصمه . . وهو لا يستطيع أن يتركها غاضبة . . حزينة . . 
هكذا علل لنفسه تصرفها عندما أصرت قبل الزواج على رفع رصيدها المادي . . لم يكن يرى في ذلك بأمر فهي ستصبح زوجة له وهو لن يدفع لها شيئاً انما سيسجله على نفسه في المحكمة فقط وهو يحبها وهي تحبه . . وقد عاهدته على التضحية والصبر لبناء حياتهما فلماذا يخاف من هذا الطلب . . لا داعي للخوف مطلقاً . . 
يا لها من ماكرة . . خططت لكل شيء . . فهي تدرك تماماً أنها لا تسطيع بل بالأحرى لا تفكر في حياة شاقة متعبة ولذلك وحتى لا تبقى تحت رحمته سيطرت عليه بهذا الأمر . . وهي تعلم أنه لا يستطيع تسديد هذا الدين . . لقد أدرك الأن لماذا طلبت منه أن يسجله كدين يلبى عندما يطلب منه تأديته . 
ولم يشعر الا وقدماه تصعدان الدرج مرة أخرى ها هو يعود الى منزله من جديد . . 
سيطرق عليها الباب الأن . . لن يفتح بمفتاحه هو . . سيتركها هي تفعل ذلك ثم يدلف الى البيت ونظرة غاضبة منه تجعلها تتسائل . . نعم سيضربها . . بل . . سيطردها وليكن ما يكون . . هو على استعداد لأن يدفع كل شيء . . لن توقفه أموال الدنيا . . لن تقيد سعادته بضع ألوف من الليرات . . سينطلق بعدها إلى العالم من جديد . . وسيقطف السعادة من ثمار الحياة اليانعة . . نعم سيفعل ذلك . . 
واكتسبت خطواته عزماً جديداً وتابع صعوده بهمة عالية . . 
طرق الباب بشيء من العنف وانتظر . . لم يسمع خطواتها , عاود الطرق مرة أخرى وبصوت أعنف . . لقد سمع هذه المرة حركاتها , وتأهب للموقف الجديد . . وانفتح الباب . . ونظر اليها وهو يدخل من الفرجة التي تركتها له . . وحاول أن يتكلم الا أن الكلمات كانت قد ماتت على شفتيه
 .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء