الحوارات ما لها وما عليها / محمود محمد اسد

 الحوارات ما لها وما عليها                                                    محمودمحمدأسد


في أعماق كلّ مبدع الكثير من القضايا والأسرار والآراء..يعبّر عنها في مقالاته وأشعاره وإبداعه، ولكنّه يعزف عن البوح والكشف عنها في أغلب الأحيان، وذلك لأمر في نفسه ويعنيه، حينا تراه،يكشف بعض المستورمن ذلك ، وبذلك يقدّم شهادة وإقرارا ليكون شاهدا على قضيّة ما أو حدث ما ...وبذلك يقدّم وثيقة للآخرين يستخدمونها في دراساتهم ونقدهم في الوقت المناسب. وحينا يُلمّح ببعض ما في داخله وفي أطراف كتاباته وحناياها ، ويترك الآخرين للتفسير والتأويل والاصطياد إذا كانوا ينوون ذلك..كلّ هذا يُستخدَم في الوقت المناسب،  فيشكّل مادة إبداعيّة محفِّزة للقراءة والمتابعة. وقلّة من يقبض على أفكاره الكامنة والمأسورة في أعماقه، وإذا عبّر عنها عبّر بضبابيّة تقف عائقا أمام فكّ ألغازها وطلاسمها. وعندها يُساءُ فهمها وتفسيرُها ، وتقع في شَرَك التأويل وسوء الفهم والاجتهاد وعسر الفهم. عندها يتحرّك ما هو ساكن  وراكد ،فتحدثُ المشَادّات الكلامية بين المبدع والمؤوّلين، وتتفاقم القضيّة التي سرعان ما تشكّلُ مشكلة تتداولها وتتقاذفها الألسن على صفحات الجرائد والمجلاّت ، وعلى الطاولات في المقاهي والنوادي، ثمّ تراها على صفحات الجرائد ينتظرها الصيّادون والمتتبّعون أخبار الحروب والمعارك.  هناك فئة قليلة تلتمس الصمت ، وتُحسن القبض على إيقاعها ، فتأسر الكثير من أفكارها ، أوتترك لها مساحاتٍضيّقة جداً للتعبير ، وبالحدود المتاحة والتي تريدها، وتتحكّم بها. فلا تقدرُ على مسك قناعاتِ هؤلاء، ولا تستطيع  معرفة كنْهَ حقيقتهم وطباعهم ، بمعنى آخر يشترون من بضائع الآخرين ولا يبيعون . ترى أحدَهم غامضا يعزف الآخرون عن تفسيره وقراءة ما وراء السّطورعنده، ولا يقدر على ذلك إلاّ قلّة تسمح لنفسها بالملامسةَ الجوّانيّة تحليلا ودرسا وحكما، ولكنّه مع ذلك لا يحرّك ساكنا، ولا ترفّ له عين، ولا يسطّر قولا أو رأيا ، ولا ينفي تفسيرا أوحكما ، وكأنّه بعيد عن مركز الحدث وجوهر القضيّة ، يترك الآخرين يتناقشون ويختلفون  مع بعضهم وهو شاهد لا يتكلّم ، فيكسب المعركة دون خوضها، وبجنود غيره واختلاف غيره. فقد جنّب نفسه الخصومات والمعارك والأقاويل، ويكتفي بعبارة " غامض" " له وضعه الخاص "  " معقّّد " أنفه مرفوعة للسّماء " " يعرف الكتابة ولا يحسن الردّ " . هذا الإنسان الذي صعّب على المتابعين فكّ " شيفراته " وألغازه كان له دور في حراك ثقافيّ ما .. خدم المشهد وأثار فضول الآخرين ، وبعث نفوسا تحبّ المغامرة والتحدّي ، وتملك الجرأة  لتدخل في أعماق نصّه، ومن ثمّ نفسه ، فولّد ما يسمّى بالدراسات النفسيّة التي يحتاجها أدبُنا كثيرا، لأنّ أغلب الدارسين يكتفون بالجاهز والمتوفّر والسّائد من القضايا لا يكلّفون أنفسهم عناء البحث والنبش والاكتشاف. المتابعون الجادّون يريدون معرفة الجانب الآخر من المبدعين الذين بنَوْا أنفسهم  ونسجوا عالمهم الخاص في عالم مضطرب صريح التناقضات . هؤلاء الجادّون لا يكتفون بقراءتهم ومتابعتهم، فالجانب الآخر من حياة المبدعين يهمّهم ، ويعتبرونه مقوِّياً  الصّلةَ والتّواصل، ويربط بين الشّخص والسطر..وهذا لايتحقّق ، ولا يتوفّر في كثير من الأحيانإنّ نزول المبدع أديبا أوباحثا أو ناقدا أو محرّرا إلى معترك الحياة مخالطا أومحاورا أومشاركا يحقّق الكثير ممّا ذَكرتُه سابقا. وهذا لا يخلو من منغِّصات ومفاجآت يتعرّض له الباحثون عن الحقيقة والجوهر. فهناك مجموعة تتوارى عن الأنظار والمشهد الثقافي تحسّبا أو ردّةَ فعل تجاه أمر  جرى معهم ، أو مع غيرهم ، يحرصون على سلامة شخصهم وطباعهم  وأمزجتهم، هذا حسب زعمهم وقناعاتهم، فلا يتكلّمون ولا يُجرون اللّقاءات ولا يبدون آراءهم إن وُجدوا، وكثيرا ما يتخلّفون إن وعَدوا بمشاركة أو لقاء. بالمقابل هناك من يشغله حبُّ الظّهور والتلميع مهما كان شكل الظّهور، ولو بذكر الاسم فقط. لا يهمّه سوى اسمه و صورته  فتأخذه الرّغبة حيث يشاء هواه، ولا يستطيع أن يرى نفسَه وذاتَه إلاّ بلفت النّظر والأضواء إليه ، فإنْ لم يحدث ذلك يبحثْ عن وسيلة ووسائل تشعل النّيران، يختلق الاختلافات والمصادمات، ويجري اللّقاءات مع نفسه بأسماء مستعارة أو أسماء يغريها بالشهرة، يصنع مشيدين في النّدوات والأمسيّات، تراهم لمرّة واحدة فتنسى اسمَهم وصورتهم . يقتله الملّلَ والضّجروالإحباط إذا لم يكن في صورة المجلس أو الحدث وإذا خفتَتِ الأنوار الاصطناعية تجاهه. وضعفت الوسائل امامه فيحسب حسابا لتغيير محرّر أو رئيس تحرير أو مدير  ما في مكان ما .. ضمن هذه الأوضاع بشكل عام يحدث المشهد الثقافي بصوره المختلفة والكثيرة والحافلة بالإيجاب إلى جانب السلب ،والحقيقة تقال: إنّ اللّقاءات الجادّة المدروسة  مع المبدعين تشكّل رافدا أساسيّاً وجوهريّا في تقديم ما خفي ، وهي تعبير عن أمر كُتِمَ أو مُنِعَ  لأمر ما .. أو لغاية في نفس صاحبه، اللقاءاتُ الجادّة تقدّم المبدع على حقيقته، تبرز ثقافته ووعيّه  وقراءتََه لنفسه في دفاتر ونفوس الآخرين ، تقدّم مكنوز معرفته وجداولَ تكوينه وشخصيّته.  وتقدّم خطوط المعرفة العريضة والممتدّة  عموديّا وأفقيّا ، هذا إذا كان  اللقاء مدروسا وآخذا حقّه من أمانة المحاوِر والمتحاوَر، ولا تعنيني الحوارات التي خضعت للفبركة والتوليف والمصلحة والتي أساءت للثقافة والمشهد الثقافي . وأهل الصنعة أدرى بما جرى ويجري.  من هنا تأتي أهميّة لقاءات المفكّرين والأدباء ، عن طريقها تلمسُ شفافيّة آراء المتحاورين،  وتكتشف العمق  والقدرة على مسك المفاتيح، بما فيها الجوانب النفسيّة والسياسيّة والاجتماعية فتقول في داخلك : " هذا  مليء وذاك طبل أجوف لا يعرف سوى النعيق والصّراخ والجعجعة " أقول هذا لأنّني أعتصر ألماً  مما أراه وأسمعه وأقرؤه ، وغيري أدرى بهذا، اللّقاءات رافد هام، ومنجَز جاهز في ظاهره، ولكنّه مختزَن في عمق الحياة والتجربة ، ولذلك نجاحُه مرهون بعدّة أطراف، بالمعدّ المشرف والمحاور والمتحاور ، وأضفْ إليها في حسن اختيار الوقت والظرف لأنّه قد يموت أمام متابعة الجماهير لمسابقة ملكات الجمال للعنب والتفاح والخوخ ، أو لاختيار أطول سيخ كباب ، وأكبر نسخة صحيفة في العالم أو لمشاهدة  مباراة كبرى بكرة القدم طرفاها بطلان كبيران، روّج لها الإعلام بكل أشكاله وأنواعه. والأصعب والأنكى من ذلك عندما يخون المحاور رسالتّه ووظيفته  فيضيف ما لا يُسألُ عنه الآخر، أو يحذف ما لايعجبه أو يعجب المنبر الذي يعمل لصالحه، وليس لصالح المعرفة والحقيقة . والأقسى من ذلك أيضاً أنّك تجد بعض المتحاورين ، أنكروا بعض إجاباتهم لأمر يخصّهم ولهم من وراء ذلك غاياتٌ ، تراهم يتراجعون عن رأي أو نقد مداراة لشخص أو تقلّبا في الأهواء ، أو للفت الانتباه وإثارة المشهد ، فالحكم الفصلُ يكون بالتسجيل الصوتي وتصوير النّسخ والتوقيع عليها وهذا حقّ ، وأظنّ أنّ القرّاء يعرفون الكثير من هذه الحكايات التي خرجت عن قدسية الثقافة وحسن التعامل الصّادق مع النّفس والآخرين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء