لا يعملون و لا يرحمون من يعمل / محمود محمد أسد

محمود محمد أسد 
              لا يعملون ولا يرحمون مَنْ يَعْمَلُ
يؤلمني أن أشاهد إنساناً يتعب و يشقى ، ثم يأتي من يُجرده من تعبهِ و يدفعُه لجرِ أذيال الخيبة. و يضايقني ذل الإنسان الذي يمارس حق الأخذ و الإعطاء و الإلغاء و هو الذي يأخذ ولا يعطي.. و يجرح إحساسي ذاك الذي اعتاد اصطياد العيوب و التقاط الهفوات و تجاهل عرق الجادّين الباحثين بكل طاقاتهم و اهتمامهم ، بجرَّةِ قلم يقضي على تعبهم و فنهم..
إن كلماتي لا تعني إنساناً محدّداً و لا ترمي الإساءة إلى فئة معيّنة. بل هو كلام عام عن ظاهرة مرضية تفشّت في حياتنا، و أخذت مساحة في الوسط الثقافي الذي أخذ يتضايق من شرّها و يصاب برذاذ فسادها واستهتارها..
هذه الظاهرة المرضية تنتشر كالوباء الفتاك في جسد الثقافة و روحها دون مُعارِض حقيقي لها.. أراها مرضاً خبيثاً يزرع أدرانه في حنايا الفكر الساطع. و ما عاد يَسلمُ من سهامه أحد. يسعى دعاته الأفذاذ لزرع ملامحه وتبنّي نهجه، وأولى تلك الملامح الاصطياد في الماء العكر وتعكير صفو العاملين في هذه الرياض الصافية. لا تراهم إلا مُستهترين بالآخرين ودون رادع يُلجِمُهم يصادرون أتعابَ الآخرين وجهودهم وآراءهم وهم مستسلمون للتنظير و الشللية، سراويلهم تراها التصقت بكراسي المقهى ، و ثيابهم ينتشر فيها السرطان من الدخان و الافتراءات . ضحكاتهم توقظ المتقاعدين و تُنشط السماسرة و تجلب السّيَّاح..
ليتهم يكتفون بأنفسهم، وما فيها من كسل وجمود.. وليتهم يستسلمون لخيباتهم، ويتركون الآخرين وشأنهم .. ليتهم يقرّون بما ينتابهم من نوبات وهلوسات تجعلهم عالة على المجتمع والزوجات والأولاد.. ولا تراهم إلا منهمكين في الأحاديث عن أنفسهم لدرجة تجعلك تشفق عليهم ، نعم إنهم يحتاجون للشفقة..
لايعجبهم العجب ولا الصيام في رجب. كما يقال.. فهم خير من ينظّر وخير من يتابعُ وينقد ويصطادُ.
ولكنهم لا يتجاوزون طاولات المقاهي والحانات.. يفهمون في السينما ولم يحضروا فلماً من عقدين.. ويتذوَّقون الفنون التشكيلية و هم لم يزوروا معرضاً من سنوات خلت وينطبق هذا على الأمسيَّات و الندوات والكتب.. الكتب التي تُهدى لهم، تراها بعد أيام على الأرصفةِ معروضة للبيع ودون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء مسح كلمة الإهداءِ التي قدِّروا بها، يبدوا أن الحاجة مُلحّة..
إن وجدوا صحيفة لا تتناسَبُ مع مصلحتهم و ميولهم فهي للحرق و التمزيق.. و المجلة التي لا تفتح لهم مجالاً، و لا تنشر لهم نتاجاتهم مجلةٌ ضعيفة و فقيرة و متخلفة و ربَّما تُتهم بالعمالةِ مع كتَّابها ومحرِّريها.. ولو قدَّمْتَ لهم كتاباً حديثاً خلا من ذكرهم، ولم يتوقَّفْ عند جماعتهم و أتباعهم لوَجَدْتهم ينفرون مِنْهُ و منك، و يلغون الكتابَ و ما فيه دون أن يقلّبوا صفحاته لدقائق، سامحهم الله وفوق هذا يتسابقون في المَدْحِ و الذم ، فلا تهدأ شفاهُهُم، و لا ينزلون عن رؤوس أصابعهم.. يحرقون كلَّ ما فيه و كلَّ من ساهم فيه بالله عليكم .. هل جميع الناس موظفون عندكم و عند أسيادكم؟
وهل من حقكم أن تمارسوا دور الشرطيِّ و موظف التموين وأنتم مُجرّدون من حقوقكم المدنية.. فماذا أعطيْتُم لأنفسكم و لأولادكم و لوطنكم؟ من نصَّبكَ قاضياً و أنت أبعد الناس عن الموضوعية؟، هذه الموضوعية التي تشكلُ الحدَّ الأساسي في علاقتك مع الآخرين.
من حق أي إنسان يسعى و يزرع بذرة معرفة أن يجدَ تكريماً له و حكماً متوازناً و ناقداً صادقاً.. فالعملُ بطولة بحدِّ ذاته وعرضُهُ فروسية نادرة.. فالمرءُ الذي لا يعمل لايخطئ، ولا يوجد مثلُ العملِ معلّماً ومدرسة للإنسان.. فالعمل حالة إيجابية متفاعلة مع الآخر و تقديمه فروسيَّة و اتزان من صاحبه يستحق عليه التقدير.. فهو صورة عن إنجاز ، و بيان عن شخص اجتهد و بَذَلَ و أحسنَ النية. فالجرأة في التقديم وعرض الإبداع .. هؤلاء الجادَّون يكفيهم أنهم يقدمون خلاصة سَهَرِهِمْ و مطالعاتهم و أبحاثهم و أموالهم. قدّموا هذا الجهد عندما كنت تهيم في أودية الضياع و الشتات . فوراء كل بحث و عمل هناك مراجعُ و سهرٌ و قلقٌ واستهلاكٌ للوقت والمال يستحق هؤلاء كل تقدير و شكر، و إذا نقدناهم فإننا نذكر الجيد والرائع قبل السيئ و الموجودَ قبل الغائب.]دددد      
أيها المستسلمُ لأوهامِهِ، والمسلِّمُ نفسَهُ للسانِهِ الذي جَعَلَ منه مِدْيَةً تَفْرمُ كلَّ المبدعين مارأيك بما أقولُهُ؟ وما هي إلاّ دعوةٌ صادقةٌ لمحاسبة الذات. هذه المحاسبة التي طالما دعوْتُ لها.
إن ساحة الإبداعِ واسعةٌ، وإنَّ ميدانَ العملِ واسعٌ ورحْبٌ فكنْ ذاك الفارس الشهمَ، فنحن بحاجة لعملك قبل حديثك، ونحن بحاجة لزنودكَ وقلمك وذهنك الناصع، والساحة معدَّةٌ لكلِّ الشرفاءِ المخلصين وهذه دعوةٌ أخرى لممارسةِ العملِ الشريف.
مارأيك أيها المستكينُ للكسل والذي وظّف من نفسِهِ شرطيّاً على الآخرين؟ هل حاولْتَ أن تقدِّر تعَب مَنْ تلغيهم وتنفيهم من جنّتكَ؟ هاهي الساحةُ أمامك.. إنها واسعة ورحبةٌ فكنْ ذاك اللاعبَ الماهرَ، وكن ذاك الأديبَ المتميِّز بإبداعِهِ ورؤيته …
أنتظرُك عاملاً منتجاً، ولا أريدك كسولاً عاجزاً عن حملِ صحيفةٍ إلى بيته .. أريدُك مقدِّساً عمل الآخرين تنقد بوعي، وتختلف بوعي تجدُ الآخرين وتعترف بهم كما تجدُ نفسك.. وتتجاوَبُ مع غيرك كما تتجاوب مع ذاتك.. وتحترم إبداع الآخرين وإنسانيتهم.
أدعوك مرَّة أخرى لتمسُكَ ورقةً وقلماً. ثم أدعوك لتسطير انطباعاتك ورؤيتك ونقدك البنّاء.. أنتظرك لتعملَ بصمْتٍ بعيداً عن التنظير وقريباً من الواقع الفنّي الإبداعي تلامِسُه إبداعاً لاتحوم حولَهُ كمن يبحَثُ عن الحقيقة في السراب. أترقَّبُ وَعْيَكَ ملموساً ومقروءاً على الورق.. تُنْصف من يستحقُّ الإنصاف ولو اختلفْتَ معه وتحترم من يختلفُ معك لأنك تؤمن بأن الناسَ ليسوا نسخةً واحدة، وأن الاختلاف لايفسدُ العلاقة والودِّ مع الآخرين. سأحترمك أكثر من كلِّ مرّة لو هجَرْتَ مهنةَ التطفُّلِ الإبداعي ولو أنّك تجاوزت عقدةَ الخواجة، وأنت تردِّدُ آراء غيرك وأفكار غيرك.. أحترمك لَوْ حَرَصْتَ على الخروج من حديقة الببغاوات، ودخَلْت حديقةَ الصدق مع الذاتِ والآخرين.
إن عملَنا معاً كفيل بتصحيح الأخطاء وكفيلٌ بتمتين الروابط الإنسانية إلى الآن أراك مصاباً بداءِ الإلغاءِ للآخرين الذين كفروا برؤيتك ولم يمجِّدوا أسيادَك ولم يقرؤوا في توراتهم. أدعوك لقراءة الواقع والذات وأدعوك للاقتراب من الذاتِ والسباحة في بحيرة الحقيقة الصافية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء