تداعيات / محمود محمد أسد

تـداعيــات محمود محمد أسد

لم يكد الدوام ينتهي حتى وجد نفسه على باب الدائرة باتجاه السلَّم ، رجلاه تتسابقان للوصول إلى الشارع العام ، شَعَرَ بطول الوقت الذي قضاه في هذا اليوم . أمضاه قلقاً مشتت الذهن . يريد الهرب منه بشكل من الأشكال .
نزل سلَّم الدائرة ويداه في جيبه ورأسه بين صدره . لا يلتفت إلى الآخرين الذين يتسابقون بعرض ابتساماتهم المستوردة .. ها هم أمامه يحملون ما بين أيديهم كل ما صادفهم من خضار وفواكه و .. و .. والشهر في آخره ، وارتفاع الأسعار لا يترك للموظف شيئاً ، خطر على باله أنه الوحيد الذي سيذهب إلى البيت ، يَدٌ من أمام ويَدٌ من خلف ، من بين أرتال هؤلاء الموظفين ...رئيس الديوان يوقف سيارة أجرة . وذاك ينتظره أحد المتعاملين معه . ومدير الدائرة سائقه بانتظاره بعد أن قضى الأعظم من وقته في قضاء حاجيات ومتطلبات أسرته التي لا تنتهي .
طريقه إلى البيت طويلة ومزدحمة بالمارة . في مثل هذا الوقت من كل يوم على موعد مع الناس المعذبين . وضع يده في جيبه دون أن يسمع رنين النقود أو يتحسَّسَ ملمس القطع الورقية التي تطيّرُ عقلَ الناس . فقد غادرتْ جيبه قبل أن تعرق . خرجت دون استئذان وأعلنت مقاطعته منذ أيام .
قطع الشارع هرباً ممن حولَه لا يريد أن يسمعهم أو يواجههم لأنه سمع منهم ما يؤذيه ويجرح كرامته . كلمات طرقتْ أذنيه . نفذت إلى أعماقه . وكثيراً ما كانت تصدمه وتهزُّه . 
في غرفة الديوان دارت الأحاديث :" قد جاءه الفرج ورفضه . أهبل وعنيد . "
وهناك من قال :" إنه جبان ، ومثالي . الناس تلتهم الدنيا وباب السعادة مفتوح له على مصراعيه ولكنه يغلقه بكلتا يديه .. عقله يابس .. وأكثر ما أزعجه صوت الموظفة سميحة التي كانت مثالاً للنزاهة في يوم من الأيام . كان صوتها موخزاً :" إلى متى نأكل الصبر .. صبرْنا ... وصبرْنا ... ساعةُ بسطٍ وسرورٍ ولا يومُ كدر ، سوف يصلح الكون بمثاليته ... "
كلمات حفرت مكاناً لها وأصبحت مكررة في كل مرة ، واجتماع . وكان يدير ظهره لها ، ويضع قطناً في أذنيه . لا يلتفت إليها كثيراً ولكنها تعذبه فوق عذابه ومعاناته في البيت والدائرة .
راجع تلك الكلمات دون أن ينتبه إلى العدد الكبير من السيارات والدّرَّاجات التي تعبر الشوارع , ودون أن يرمي بصره إلى بائعي الخضار والفواكه التي قاطعها من فترة بينهما حرب باردة ... خرج من البيت وكل واحد من أولاده يسأله حاجة تهمُّه .
بسام طلب منه أقلام تلوين خشبية ، ومنار رجَتْهُ أن يشتري لها حذاء رياضيّاً لأن معلمة الرياضة ستعاقبها وتحرمها من الدرس ، ودرس الرياضة ثمين وعزيز على قلوب الطلاب . ورائد الصغير ودَّعهُ وهو يلحُّ عليه بشراء البسكويت ...
طلبات أولاده وكلماتهم تسكن في أذنيه ، وتدغدغ خلجات نفسه المعذبة والقلقة وكلمات زملائه توخزه بقوة وألم يفوق ألم معاناته . وكيف ينسى تلك الكلمات التي دعتْهُ لفنجان قهوة على طاولة التاجر " أبو أمين " دعوة دسمة في مكان هادئ لكنه رفض الدعوة وعرقل مشاريعه .
كيف لا يرفضها والدافع لها معروف ؟ هذه الدعوة حطَّتْ عليه بأشكال متعددة ولكن الهدف واحد . وكان الرفض أكثر تحدِّياً . وقال في ذهنه : فنجان القهوة عندنا يستحقُّ مسلسلاً ... 
أبو أمين تاجر محترف . اعتاد هذه الأساليب من أجل قضاء مصالحة وهو معروف بأساليبه ، ومقدرته وخبثه في ردهات الدائرة الفنية . رغم حاجة هذا الموظف لكل شيء ولكنه أبى أن يكون جسراً وممرّاً لثروة غير مشروعه ، فأبو عادل معيل كما عرفنا ولا معيل له إلا عمله . آخر ما طلبته منه أم عادل تأمين المازوت الذي أوشك أن ينتهي ، والبرد شديد ، والرائع فيه يجيب الجميع ببرود .. حاضر ... حاضر ... إن شاء الله .. "
حتى الآن لم ينتَهِ مشواره إلى مركز الحافلات العامة ، ويبدو لن يصل قبل أن ينفجر رأسه ويطير صوابه أمام هذه التساؤلات المتعبة ، وهذه الصور المثيرة ، فالتاجر أبو أمين .. لا يريد سوى إعطائه كمية فائضة على مخصصاته من الإسمنت والخشب والحديد . وهي من المواد المقنَّنة والمطلوبة في السوق السوداء وتُباعُ بأسعارٍ مرتفعةٍ . وهذا هدفه ومصدر غنائه وثروته الهائلة .
أخيراً أخذ المحتار زاوية من مركز الحافلة وهو يرنو بنظره ويتنقل به من مكان إلى آخر ومن بائع إلى آخر . وأصوات الباعة معروفة غير متجانسة ، لا تجانس فيها إلا الصراخ والتداخل والموهبة في كسب الزبون .وتشكل لوحة من سمفونيات الحياة الكل في حالة تنافس وتناحر مع تكاليف الحياة الشاقة . سباق طويل وشاق لكسب لقمة العيش ...
تقف الحافلة فاتحة ذراعيها . تستقبل الركاب بصورة غرائبية . ازدحام وتدافع وتناحر من أجل الجلوس على بعض الكراسي المتبقية من دون كسر ، ونال شيئاً من القسوة والدفع . سرواله القديم الذي اشتراه مستعملاً لم يسلم من ضَرر الركاب فلُطِّخَ بالوحل والغبار ... ها هو يضع القسيمة المخصَّصةَ للركوب ، وهذا آخر ما يحمله في جيبه من أشياء لها قيمة . قلَّة تُخْرِجُ القسيمة والأكثر يتجاوزونها . 
أسلم رأسه للتفكير دون أن يلتفت إلى الركاب وأحاديثهم المتداخلة . الكبار يتحدثون عن غلاء السلع وقلَّةِ فرص العمل والكسب وفوضى الحياة . والصِّبْيَةُ يتحدّثون عن نتائج بعض المباريات الرّياضية التي تشدّهم مشاهدةً وأخباراً ومتابعةً على حساب الكثير من الواجباتِ المدرسيَّةِ .
التفت مدهوشاً لكلمة جاءت صاعقة :" كل شيء أصبح له قيمة ... ابني نسي شكل الموز وطعم اللحم . فكيف ندبر أمرنا ... ؟ "
وبين استرخائه للتفكير وثقل الأفكار المستلقية فوق رأسه استسلم لحساب المرتَّب الذي سيقبضهُ من هنا ويتبخَّر من هناك : كيف أوزِّعه ؟ ولمن أعطي ؟ ومَنْ أرضي من الدائنين . ؟ وماذا أبقي منه ؟ 
الدائنون ينتظرون والدَّخْلُ هو هو وهناك قسط شهريٌّ لمصرف التسليف الشعبيّ .. !
فجأة يصحو من تساؤلاته على صوت هزَّ أوصاله " إرش تمش .. الفلوس تحني الرؤوس " .
كلمات يسمعها في مكان عام دون حذر ، كان وقعها على نفسه المرهفة كقنبلة موقوتة ، كادت تُفقده صلابة موقفه، وهو القانع بما هو عليه . أيبقى إنساناً شريفاً أم يأخذ بهذا القول الرّخيص ؟ ودعوة " أبو أمين " ما زالت مفتوحة أمامه ...
   استيقظ من تساؤلاته وتداعياته على صوت المراقب للخطوط ... يا أخ هنا آخر الخط وأريد البطاقة ... تفضَّل هذه البطاقة. ونزل عائداً على قدميه إلى بيته ... يقول في نفسه : كيف ألبِّي طلبات الأولاد .... ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء