طرد بريدي / محمود محمد أسد

- قصة 
- طرد بريدي – 
                                  محمود محمد أسد

 في صباح هذا اليوم البارد. وهو يومٌ من أيام كانون القاسية. كان جهادٌ شارداً، لاينتبه إلى المعلّم والدرس. وهو أمرٌ لم يألفْهُ، وخارجٌ عن عادته وإرادته.. جهادٌ شارك جدُّه مع المجاهد عز الدين القسَّام في مقاومة اليهود والإنكليز في فلسطين.. جهادٌ لم ينتبهْ إلى معلِّمهِ وهو يشرح درسَ الحساب.. انصرف ذهنه لجمع عدد الضحايا والشهداء في انتفاضة أخوته في فلسطين. ارتسمَتْ أمامه صور الشهداء والأطفال والنساء في فلسطين الثائرة..
 وكان إلى جانبه محمِّدٌ الذي يسكن قريباً من بيته، راح محمَّد يحدِّق في خارطة فلسطين المعلقة فوق السبَّورة. أحضَرَها معلِّمُ الاجتماعيات في ذكرى وعد بلفور.. محمَّد ينظر غاضباً.. ينقل بصره.. ويقول في نفسِهِ.. هذه غزّة.. وتلك نابلس وعكا.. وهناك بيت لحم ورام الله.. وتذكَّرَ والده الذي استشهد في حرب تشرين.. قال محمَّد للمعلم: أينَ موقعُ القدس ياأستاذ؟
 وبهدوء يجيبه المعلِّمُ: ياأولادي إنَّها في قلب كلِّ إنسانٍ عربيٍّ ومسلم.. يامحمَّد.. إنَّها معنا لاتفارقنا.. تغنّي لها فيروز، ويتغنّى بها الشعراء.. ولكن قولوا لي ماحكمة اليوم؟
 قام خالدٌ سريعاً ومنفعلاً: " الاتحاد قوّةٌ والتفرّق ضعفٌ وتخاذل " وتابع قائلاً:
 أين المكان الذي قُتِلَ فيه محمَّد الدرّة؟ ومَنْ سينتقم له ياشباب.. أنا أريد الانتقام لمحمّد الدرّة ولوالدي.. قال له معلِّمهُ وبهدوء: أحسنْتَ ياخالدُ !. أحسنتم ياأبنائي.. سننتقم للجميع ولكن بالعلم والاجتهاد والعمل والحبِّ أليسَ كذلك ياأبنائي؟.
 صوت الطلاب ملأ أرجاء الصفِّ وبقيَّة الصفوف كان عميقاً نقيَّاً: "فلسطين تنادينا.. فلسطين جريحة.. القدسُ تدعونا دموعُها..".غزة يدعوننا ضحاياها
 ومن بين الطلاب قام صلاحُ الدين بجسده النحيلِ، يقلِّبُ بصره.. يلتفت يميناً ويساراً كمن يبحث عن درَّة ثمينة ضائعة. والتفت إليه رفيقُهُ مضرُ وقال له: يبدو أنك تخطّط لأمرٍ ما.. تفكِّرُ بشيءٍ ليسَ على البال، وهذا مُضَرُ يعيش والده في سوريا من ثلاثين عاماً وهو جزائريٌّ يعملُ في السفارة الجزائريَة وتزوج من أمِّه السورية. قطع المعلِّم عليهما الحديث بسؤاله:
 ياأولادي الأعزّاء ! ماذا رأيتم في التلفاز مساء الأمس؟ قال الجميعُ رأينا أخوتنا يحملون الحجارةَ والمقاليعَ، رأينا غضبَ الأهل وبطش الصهاينة.. وتابعوا: رأينا كثيراً.. فرحنا.. حزنّا.. متى نطردهم ونعيد القدسَ وفلسطين؟
 خرجوا من المدرسة، وهم يردّدون أسئلتهم وصرخاتهم الغاضبة.. ولكنَّ أربعةً منهم توقفوا منفردين، أخذوا جانباً من جدار المدرسة.. اجتمع خالدٌ وصلاحُ الدين ومضرُ ومحمّد، دار الحديث بينهم.. ساروا معاً.. ابتعدوا عن المدرسة، تجوَّلوا في الأزقَّةِ والحارات ومعامل البلاط راحوا يجمعون الحجارةَ والخيطان والحبال، وفي غمرة البحث نسوا أهلهم والعودة إلى بيوتهم.. قلق الأهل.. سألوا عنهم.. بحثوا حول المدرسة هنا وهناك.. وبعد ساعتين كانوا أمامَ مدخل البريد.. يحملون صناديق.. حزموها بقوّة.. أحكموا إغلاقها، كتبوا عليها:
 المرسل: أطفال العرب في كلِّ مكان
 المرسل إليه: أطفال الأرض المحتلة
 المحتوى: حجارة ومقاليع وأدوية
 وفي لحظة الحيرة والبحث عن أجور البريد كان معلمهم إلى جانبهم. أخرج حقيبته.. قدَّم النقود.. ثم عاد بهم إلى بيوتهم مهنّئاً أهلهم.. وفي اليوم التالي اندفع صفٌّ آخرٌ.. وفي آخر يوم من الأسبوع كانوا أمام مركز التبرع بالدم وهم يضحكون…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إن غاب قالت جائبا غلابا / خالد بلال

ريح هوجاء